Skip to Content

مقالة الكنيسة الحاضرة ( نور وملح وخميرة ) - الخوري الياس عدس

 










































الكنيسة الحاضرة


( نور وملح وخميرة )


الخوري الياس عدس


مقدمـة


الحضور هو واقع ملموس وهو ثمرة إيمان وصلاة، ومن خلال الإيمان يحدد الإنسان حضوره في المجتمع. والحضور لا يتحقق إلا في وسط مجتمع. وحضورنا نحن هو حضور الله فينا إننا نحن علامة حضوره في العالم، إذ يدعونا الله حتى نكون مع وفي ومن أجل لا ضد أو خارج أو على هامش المجتمع الذي نعيش فيه.


الحضور رسالة وشهادة


إن الحضور المسيحي ليس هو حضور من أجل ذواتنا لأن السيد المسيح لم يؤسس كنيسته كي تبقى في خدمة نفسها، بل لتكون شاهدةً وصاحبة رسالة للآخر، هي رسالة مؤسسها ومعلمها بالذات.


وإن غياب الرسالة والشهادة في حياتنا المسيحية إنما هو إلغاء لذواتنا وللهدف الذي من أجله دعانا يسوع. ولكي تكون الكنيسة حقاً كنيسة المسيح عليها أن تبقى علامة مَحبة الآب الخلاصية للبشر، بنعمة الإبن يسوع المسيح وبقوة الروح القدس وقد وضّح ذلك يقوله لنا " وتكونون لي شهوداً " (أع 1/8 ) وجواب الكنيسة على لسان الرسل "ونحن شهود على ذلك" ( أع 2/32 ).


ويقول البابا يوحنا بولس الثاني في هذا الصدد:


الوجه الأول للرسالة هو شهادة الحياة المسيحية التي لا غنى عنها. المسيح الذي نتابع رسالته، هو الشاهد المثالي.


ونموذج للشهادة المسيحية: هي إن المسيحيين يندمجون في صميم حياة شعوبهم. وهـم " آيات " إنجيلية بأمانتهم لوطنهم وشعبهم وثقافتهم الوطنيـة، مع الاحتفاظ بالحرية التي اكسبهم إياها المسيح.


إن الشهادة للتطويبات الإنجيلية تبقى الطريق الأول للإنجيل نحو قلوب البشر وضمائرهم. وإذا كانت الجماعات المسيحية في الشرق قد انغلقت في الماضي على ذاتها. وفقدت معنى الرسالة والشهادة بسبب ظروف تاريخية قاهرة مكتفيةً بالبحث عن الاستمرار في الوجود فحسب، فإنها مدعوة اليوم الى التحرر من رواسب الماضي لتحيي معنى الرسالة من جديد في حياتها فتنفتح على العالم المحيط بها، وتشهد لذاك الكنز الثمين الذي عثرت عليه، والذي يفرّح قلبها كما يفرِّح قلب كل إنسان.


عدوّا الحضور هما:


الأول الانعزال وهو يلغي رسالتنا. والثاني الذوبان وهو يقضي على هويتنا.


فمن هنا نستنتج أن الحضور الفعال والأصيل هو تجذرنا فأمانتنا لله ولأنفسنا وللمجتمع الذي أراده الله مكاناً لمسيرتنا الأرضية ولتجسده.


فالمسيحي هو بشهادته ورسالته نور وملح وخميرة.


قال لنا المسيح أنتم نور العالم، وأيضاً أنتم ملح الأرض، وأنتم كالخمير في العجين. فإذا انعزل النور فانه يفقد معنى وجوده، وإذا انتزع الملح مِن الطعام فلا فائدة منه، وإذا خرجت الخميرة من العجين تحجرت وفسدت. وعندما لا يكون المسيحي نوراً وملحاً وخميرةً فإنه قد يتحول إلى كيان جامد متحجر يكون عبئاً على نفسه وعلى مجتمعه.


أولاً: أنتم نور العالم


بعدما تحدّث يسوع في إنجيل متى عن المؤمنين كملح الأرض وجّهنا إلى رسالتنا كنورٍ للعالم، قائلاً: "أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفي مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فيضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (متى 5/14-16) .


يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:


" إن كنّا في محبتنا للبشر نشتهي أن نخدمهم ونذوب فيهم كالملح في الطعام لنقدّمهم خلال التوبة طعامًا شهيًا يفرح به الله، فإن الله لا يتركنا نذوب في الأرض، وإنما يرتفع بنا ويحسبنا كنور يضيء للعالم. إنه يقيمنا كالقمر الذي يستقبل نور شمس البرّ، ليعكس بهاءها على الأرض، فتستنير في محبّته. يعكس نوره على المؤمن، فيصير أكثر بهاءً من الشمس المنظورة، لا يقدر أحد أن يخفيه حتى وإن أراد المؤمن نفسه بكل طاقاته أن يختفي. لا يقدر أحد أن يسيء إليه، حتى مقاوميه الأشرار، يقول الرسول بولس: " لكي تصيروا بسطاء لا لوم عليكم، وأبناءً لله لا عيب فيكم، وسط جيل معوج ومنحرف، تضيئون فيه كالنيرات في العالم" (في 2: 15) ويقول الرسول بطرس في هذا الصدد: "لتكن سيرتكم بين الأمم حسنة، حتى إذا افتروا عليكم كأنكم فاعلو سوء، يلاحظون أعمالكم الحسنة، فيمجدون الله في يوم الإفتقاد" (1 بط2/12).


يشبّهنا السيّد المسيح بالمدينة القائمة على جبل، فلا يُمكن إخفائها. ما هي هذه المدينة التي تقوم على جبل؟


إلا الإنسان الذي يحمله الروح القدس إلى الرب نفسه، ليجلس معه على الجبل يسمع وصاياه ومواعظه؟! هناك يلتصق به ويجلس عند قدميه، فيصير أشبه بمدينة مقدّسة يسكنها الله نفسه، ويضم إليها مملكته من ملائكة وقدّيسين، وخلالها يلتقي الخطاة بالمسيح الملك بالتوبة. يصير المؤمن وهو يتقدّس على الجبل المقدّس أورشليم التي يراها الكل ويفرحون.


هذا المفهوم يذكرنا بكلمات القدّيس جيروم في إحدى رسائله: " ما يستحق المديح ليس أنك في أورشليم، إنّما تمارس الحياة المقدّسة (كمدينة مقدّسة)... المدينة التي نبجِّلها ونطلبها، هذه التي لم تذبح الأنبياء (متى23: 37)، ولا سفكت دم المسيح، وإنما تفرح بمجاري النهر، وهذه القائمة على الجبل فلا تُخفي (متى 5: 14)، يتحدّث عنها الرسول بولس كأمٍ للقديسين (غل 4: 26)، ويبتهج أن تكون له المواطنة فيها مع البرّ " أما نحن فمدينتنا في السماوات، ومنها ننتظر الرب يسوع المسيح مخلصنا"(في 3: 20)."


بهذا التشبيه أيضًا، المدينة القائمة على جبل والتي لا يمكن أن تُخفى، أراد السيّد تشجيع تلاميذه على خدمة البشارة بالكلمة مؤكّدًا لهم أن المضايقات لا يمكن أن تخفي الحق أو تُبطل عمل الله.


يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: " أظن أنه لا يمكن لمدينة كهذه أن تُخفي، هكذا يستحيل أن ينتهي ما يكرزون به إلى السكون والاختفاء".


يشبّهنا أيضًا بالسراج الذي لا يُخفى تحت المكيال بل يُوضع على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. ما هو هذا المكيال الذي يطفئ سراج النور الداخلي إلا الخضوع للمقاييس الماديّة في حياتنا الروحيّة. كثيرًا ما تقف حساباتنا البشريّة الماديّة عائقًا أمام الإيمان، الأمر الذي يفقد صلواتنا وطلباتنا حيويّتها وفاعليّتها،
لهذا عندما أرسل السيّد المسيح تلاميذه للكرازة سحب منهم كل إمكانيّات ماديّة، فلا يكون لهم ذهب ولا فضّة ولا نحاس ولا مزود ولا ثوبان ولا أحذية ولا عصا (متى 10: 9-10)، لكي ينزع عنهم كل تفكير مادي، فيكون هو غناهم وطعامهم وشربهم وملبسهم وحمايتّهم!


والمكيال يُشير أيضًا إلى حجب النور الروحي، حيث يغلف الإنسان روحه بالملذّات الجسديّة والزمنيّة، فيحبس الروح ويحرمها من الانطلاق لتحلق في أفق الأبديّة. يتحوّل الجسد إلى عائق للروح، عِوض أن يكون معينًا لها خلال ممارسته العبادة، وتقدّيس كل عضو فيه لحساب السيد المسيح.


ليتنا لا نحبس النور الروحي فينا في غلاف الشهوات الجسديّة، وإنما ننطلق به لنضعه فوق المنارة، أي فوق الجسد بكل حواسه، فلا يكون الجسد مسيطرًا بل متعبداً للنور الحق.


وكما يقول القدّيس أغسطينوس: "أظن أن الذي قصده السيد المسيح بالبيت هنا هو مسكن البشر، أي العالم نفسه، وذلك كقوله "أنتم نور العالم". إلاّ أنه إذا فهم شخص ما البيت على أنه الكنيسة فهذا صحيح كذلك".


ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على السراج المتّقد على لسان السيّد نفسه، قائلاً: " حقًا أنا الذي أوقد النور، أمّا استمرار إيقاده فيتحقّق خلال جهادكم أنتم... بالتأكيد لا تقدر المصائب أن تعطِّل بهاءكم إن كنتم لا تزالون تسلكون الحياة ، فتكونون سببًا لتغيير العالم كله. إذن، فلتُظهروا حياة تليق بنعمته، حتى إذ تكرزون في أي موضع يصاحبكم هذا النور".


بهذا يضيء نورنا، الذي ليس هو إلا نور الروح القدس الساكن فينا، قدام الناس، لكي يروا أعمال الله فينا، فيتمجّد أبونا الذي في السماوات. لسنا نقدّم العمل الروحي طلبًا لمجد أنفسنا بل لمجد الله.


كما يقول القدّيس أغسطينوس: " لم يقل "لكي يروا أعمالكم الحسنة" فقط، بل أضاف: "ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات"، لأن الإنسان يُرضي الآخرين بأعماله الحسنة، لا لأجل إرضائهم في ذاته، بل لتمجيد الله. فيرضي البشر ليتمجّد الله في عمله، لأنه يليق بالذين يعجبون بالأعمال الحسنة أن يمجّدوا الله لا الإنسان، وذلك كما أظهر ربّنا عند شفاء المفلوج، إذ يقول متى الإنجيلي: " فلما رأى الجموع استولى عليهم الخوف، ومجدوا الله الذي أعطى الناس مثل هذا السلطان"تعجّبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا" (متى9: 8)."


ومما يجب تداركه أن الله وهو يدعو تلاميذه "نور العالم" لا يشعر التلاميذ أنهم هكذا. وإلا فقدوا تواضعهم وانطفأ النور الروحي فيهم، فموسى النبي لم يكن يعرف أن وجهه كان يلمع، وإنما من أجل طلب الشعب كان يغطِّي وجهه بالبرقع. ما أحوجنا لا أن نشهد لأنفسنا، بل يشهد الله نفسه والآخرون بنوره فينا!


ثأنياً: أنتم ملح الأرض


بعد أن تحدّث الإنجيلي متى عن التطويبات كسُلّم روحي يرتفع عليه المؤمن بالروح القدس لينعم بالحياة المقدّسة في المسيح يسوع ربّنا أوضح التزام المؤمن بالعمل في حياة الآخرين، مشبّهًا إيّاه بالملح الذي لا يُستغنى عنه في كل وجبة. دعاه ملح الأرض، لأنه يعمل في حياة البشر الذين صاروا أرضًا خلال ارتباطهم بالفكر الأرضي.


لملح الطعام أو كلوريد الصوديوم خصائص وسمات فريدة تنطبق على حياة المؤمن الحقيقي، نذكر منها:


1- هو الملح الوحيد بين كل الأنواع الذي يتميّز بأنه متى اُستخدم في حدود معقولة وباعتدال لا يظهر طعمه ومذاقه في الطعام، وإنما يُبرز نكهة الطعام ذاته، وإذا وضعت كميّة كبيرة منه في طعام يفقد الطعام لذّته ومذاقه وتظهر ملوحة الملح ،هكذا وإن كان يليق بالمسيحي أن يذوب في حياة الغير لكن في اعتدال دون أن يفقدهم شخصياتهم ومواهبهم وسماتهم الخاصة بهم، فلا يجعل منهم صورة مطابقة له، فيكون أشبه بقالبٍ يصب فيه شخصيّات الآخرين، ويفقدهم حيويّتهم، الأمر الذي يجعلهم كالطعام المالح. المسيحي الروحي هو من كان كالنسيم الهادئ يعبر ليستنشق الآخرون نسمات الحب، لا عواصف الرياح الشديدة.


2- يتكوّن كلوريد الصوديوم من عنصرين هما الكلور والصوديوم وكلاهما سام وقاتل، لكن باتّحادهما يكوّنان الملح الذي لا غنى لنا عنه في طعامنا اليومي. والمسيحي أيضًا يتكوّن من عنصري النفس والجسد، إن انقسما بالخطيّة فقدا سلامهما، وصارا في حكم الموت.


لهذا تدخّل السيّد المسيح واهبًا السلام الحقيقي بروحه القدّوس مخضعًا النفس كما الجسد في وحدة داخليّة، ليكون الإنسان بكلّيته سرّ عذوبة الآخرين، يشهد للحق. إن كانت النفس تتسلّم قيادة الجسد في روحانيّة، فإن الجسد بدوره إذ يتقدّس يسند النفس ويعينها، فيحيا الإنسان مقدّسًا نفسًا وجسدًا، ويُعلن بوحدته الداخليّة في الرب عمل الله أمام الآخرين.


3- ملح الطعام من أرخص أنواع الأطعمة يسهل استخراجه في أغلب بقاع العالم، لكن لا يمكن الاستغناء عنه. هكذا يليق بالمؤمنين أن يعيشوا بروح التواضع كسيّدهم، مقدّمين حياتهم رخيصة من أجل محبّتهم لكل إنسان في كل موضع.


ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على قول السيّد لتلاميذه: "أنتم ملح الأرض" هكذا: "لا أرسلكم إلى مدينتين أو عشرة مدن أو عشرين مدينة، ولا إلى أمة واحدة كما أرسلت الأنبياء، إنّما أرسلكم إلى البرّ والبحر والعالم كله، الذي صار في حالة شرّيرة. فبقوله: "أنتم ملح الأرض" عني أن الطبيعة البشريّة كلها قد فقدت نكهتها، وأننا قد فسدنا بسبب خطايانا".


لكن يحذّرنا السيّد لئلا نفسد نحن الذين ينبغي أن نكون كالملح، فلا نجد من يملِّحنا وينزع عنّا الفساد. هذا الحديث موجّه بصفة عامة لكل مؤمن.


ثالثاً- الكنيسة خميرة في العجين


بعد أن كشف السيّد المسيح عن الدور الإلهي في ملكوت السماوات، ومقاومة العدوّ له، وإمكانيّات الملكوت، يحدّثنا هنا عن دور الكنيسة العملي في إعلان ملكوت السماوات خلال حياة الشركة، قائلاً: "يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اِختمر الجميع" [33].


لقد شبّه الكنيسة بامرأة تمسك بيديها خميرة تُخبِّئها في ثلاثة أكيال دقيق لتحوّلها إلى خبز. فإن الدقيق بدون يديّ هذه المرأة العاملة والحاملة للخميرة لا يصلح إلا أن يقدّم للحيوانات، لكنّه بالخميرة التي في يديّ المرأة يصير خبزًا.


ما هي المرأة العاملة هنا؟


وما هي الخميرة؟


وما هي الثلاثة أكيال دقيق؟


1- إن كانت المرأة تمثِّل الكنيسة الأم، فإن رسالتها تتركّز في تقديم السيّد المسيح "الخميرة واهبة الحياة" للدقيق حتى يختمر، فيحمل سمات المسيح فيه. الخميرة في واقعها مأخوذة من الدقيق، لكنها تحمل "قوّة الاختمار"، إشارة إلى السيّد المسيح الذي أخذ جسده منّا، وصار كواحدٍ منّا، ليس بغريبٍ عنّا، لكنّه هو الحياة. أمّا كمّية الدقيق فثلاثة أكيال.


يقول القدّيس جيروم: "أن الكيلة وِحدة قياس في فلسطين تحوي حوالي 3 جالونات. على أي الأحوال كمّية الدقيق ثلاث أكيال لأنه يمثّل الوِحدة بين الروح والنفس والجسد، فالكنيسة إنّما تقدّم السيّد المسيح كسرّ تقديس للإنسان في كليَّته، روحًا ونفسًا وجسدًا".


2- يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: في المرأة المذكورة هنا المجمع اليهودي الذي حكم على السيّد المسيح "الخميرة" بالدفن، فقام السيّد واهبًا للدقيق اختمارًا ، أمّا رقم ثلاثة هنا يُشير إلى الناموس والأنبياء والإنجيل، ففي المسيح يسوع ربّنا يظهر الثلاثة عجينًا واحدًا. غاية الناموس هو المسيح وهدف النبوّات هو الإعلان عنه. وأما الإنجيل فهو الكرازة بالمسيح يسوع. تظهر وحدة الكتاب المقدّس كلّه بنواميسه ونبوّاته وبشارته المفرحة. في التجلّي أراد بطرس أن يُقيم ثلاث مظال واحدة لموسى ممثلاً الناموس، وأخرى لإيليّا ممثلاً الأنبياء، والثالثة للسيّد المسيح ممثلاً الإنجيل، لكن الله لم يرسل ثلاث مظال، بل سحابة واحدة إشارة إلى هذه الوحدة في المسيح يسوع!


رقم 3 يُشير أيضًا إلى الأمم والشعوب التي جاءت عن سام وحام ويافث، أولاد نوح الثلاثة... وكأن الكنيسة الأم تقدّم السيّد المسيح لهذه الشعوب المتفرِّقة فتختمر معًا في وحدة الروح والفكر، وتحمل سمات المسيح الواحد!"


3- يرى القدّيس أغسطينوس:" في هذا المثل صورة حيّة لملكوت السيّد المسيح بكونه ملكوت الحب الحيّ العامل في البشريّة، وذلك بدخول المحبّة "المسيح" في الحياة البشريّة لتقديسها لله ، الخميرة تعني الحب، الذي يخلق ويلهب الغيرة ،والمرأة تعني الحكمة، والثلاثة أكيال طعام (دقيق) يعني إمّا الأمور الثلاثة في الإنسان (الخاصة بحب الله) "من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الذهن" (متى 21/ 37)، أو ثلاث درجات الإثمار: "مائة ضعف وستون وثلاثون" (متى 13: 8/ 23)، أو الثلاث أنواع من الرجال: "نوح ودانيال وأيوب" (حز 14/ 14)."


4- يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم:" صورة فعّالة لملكوت السماوات، فإنه لا يمكن للدقيق أن يختمر ما لم تُدفن فيه الخميرة أو تحبس في داخله. لم يقل السيّد أن المرأة وضعت الخميرة في الدقيق، بل "خبّأتها"، هكذا إن لم يلتقِ بمضايقيه محتملاً الأتعاب بفرح لا تتحوّل حياة المضايقين إلى الاختمار".


وكما يقول القدّيس نفسه: " عندما تكونون واحدًا مع من يهاجمكم وتمتزجون معهم تغلبونهم (بالحب والإيمان). وكما أن الخميرة المختفية في عجين لا تهلك، بل بالأحرى تُغيّر طبيعة العجين، هكذا أيضًا في الكرازة بالإنجيل. لذلك لا تخافوا عندما أُخبركم عن الضيقات أنها قادمة، لأن نوركم لا يقدر أحد أن يُطفئه، إنّما يغلب كل البشر".


نداءات


تقولون لي إننا صغار وجماعة صغيرة ولا نستطيع أن نفعل شيئاً ؟ فأقول لكم على لسان يسوع المسيح " لا تخف أيها القطيع الصغير" فإن المسيح اختارنا إلى واقع جديد واقع دعوة وشهادة ورسالة نعيشها في فرح الإيمان.


النور يكون ضئيلاً في البيت ولكنه ينوِّر، وكذلك الملح في الطعام، والخمير في العجين، والكنيسة في العالم، فدعوتنا اليوم ورسالتنا هي أن ننطلق إلى العالم بحضور فعال بشهادة ورسالة نابعة من حياة روحية، نازعين عنا عدم الثقة بالنفس وبالمجتمع والخوف والانعزال متذكرين قول يسوع لنا " لا تخف أيها القطيع الصغير" ( لو 12/13).


تشبهوا بالرسل لقد كانوا صغاراً وأقلية فقلبوا العالم بإيمانهم وشهادتهم وكأنهم إنسان واحد، هذا ما قاله الناس عنهم. وقول الناس عنا يتحدد بحسب حياتنا الروحية التي نعيشها بشهادة حية ورسالة فعالة على مثال المعلم الأول يسوع المسيح.


وهذا الحضور يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنوعية الإيمان الذي نعيشه وعمقه وأصالته وصدقه. وقد وهب الله نعمة الإيمان لرسله ومن ثم لخلفائهم ولنا جميعاً وقد نقلتها الكنيسة بكل أمانة رغم الاضطهادات والآلام التي عانتها وخاصة كنيستنا الشرقية.


استشهد الكثيرون وأغنى آخرون بفكرهم التراث الشرقي لبناء كنيسة حاضرة في العالم، وتلك التحديات التي واجهتهم تدعونا اليوم لتجديد حياة الرسالة والشهادة التي تسلمناها من آبائنا وأجدادنا، ولكن علينا أن نتعمق بدعوتنا هذه لكي نستطيع أن نعيشها على ضوء الإنجيل في هذا العصر ونكون كنيسة محلية تعيش الواقع اليوم فتسهم في خلق جيل جديد من المؤمنين المدركين معنى انتمائهم إلى مسيحهم وكنيستهم ومجتمعهم.


وهذا كله لا يتم إلا بحضور فعال بالصلاة والتأمل وبحياة النسك والتقشف.لأن الإنسان الشرقي إنسان يصلي يقف أمام ربه في الفرح والألم. إذ هو في حوار متواصل مع الله يمجده وينقي قلبه ويجدد حياته.


ومما لاشك فيه أن الحياة الروحية تتغذى بالليتورجية والأسرار و بالتوبة المستمرة التي تجدد الإنسان، وبالإفخارستيا التي تشكل أهم روابط العلاقة مع الله والإنسان.


فالصلاة بأنواعها هي أسمى مظاهر الحضور المسيحي، وإذا اندمجت بحياتنا في المجتمع أخصبته وهو بدوره أخصبها، فيُضفي على المجتمع صورة المؤمن الحقيقي الذي يستمد حياته من الوقوف أمام خالقه.


فروح الصلاة نابعة من أرضنا، لأن أرضنا هي نقطة الحوار بين الله والإنسان وبين الإنسان والله إذ تجسد المسيح هنا فتعلمنا منه الحوار والحضور.


واليوم تدعونا الكنيسة إلى تجديد روح الصلاة وخاصة الصلاة التأملية. وتأسيس جماعات للصلاة والتأمل بسرّ الله الخلاصي الذي حققه بيسوع المسيح. ولا ننسى الوجه الثاني للحياة الروحية المغذية للصلاة وهو النسك. فإن آباءنا الذين دخلوا الصوامع وتأملوا الرب وحملوا العالم بصلواتهم من مار مارون وسمعان العامودي ومار شربل وغيرهم، ينتظرونكم لتنهلوا من قداستهم ومن روحانيتهم المتأصلة من أرض الرسالة والشهادة والإستشهاد، وبهذا نصبح علامة حية للملكوت، وأداة تواصل لعمل الفداء



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +