همسات روحية<?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" />
لنيافة الأنبا رافائيل
لم يحبوا حياتهم
"مَنْ سيَفصِلُنا عن مَحَبَّةِ المَسيحِ؟ أشِدَّةٌ أم ضَيقٌ أم اضطِهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سيفٌ؟ كما هو مَكتوبٌ: إنَّنا مِنْ أجلِكَ نُماتُ كُلَّ النَّهارِ. قد حُسِبنا مِثلَ غَنَمٍ للذَّبحِ. ولكننا في هذِهِ جميعِها يَعظُمُ انتِصارُنا بالذي أحَبَّنا. فإني مُتَيَقنٌ أنَّهُ لا موتَ ولا حياةَ، ولا مَلائكَةَ ولا رؤَساءَ ولا قوّاتِ، ولا أُمورَ حاضِرَةً ولا مُستَقبَلَةً، ولا عُلوَ ولا عُمقَ، ولا خَليقَةَ أُخرَى، تقدِرُ أنْ تفصِلَنا عن مَحَبَّةِ اللهِ التي في المَسيحِ يَسوعَ رَبنا" (رو8: 35-39).
مَنْ يتبع المسيح سيمشي في طرق وعرة وضد التيار..
& "اُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيقِ، ما أضيَقَ البابَ وأكرَبَ الطريقَ الذي يؤَدي إلَى الحياةِ" (مت7: 13-14).
& "ها أنا أُرسِلُكُمْ كغَنَمٍ في وسطِ ذِئابٍ... وتكونونَ مُبغَضينَ مِنَ الجميعِ مِنْ أجلِ اسمي" (مت10: 16، 22).
& "ومَنْ لا يأخُذُ صَليبَهُ ويتبَعُني فلا يَستَحِقُّني... مَنْ أضاعَ حَياتَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها" (مت10: 38-39).
& "إنْ أرادَ أحَدٌ أنْ يأتيَ ورائي فليُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعني، فإنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلصَ نَفسَهُ يُهلِكُها، ومَنْ يُهلِكُ نَفسَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها" (مت16: 24-25).
ومع ذلك فإن تيار المسيحية (ضد تيار العالم) لم ولن ينقطع، بل لقد صمدت المسيحية ضد أعتى القوى وضد أبواب الجحيم.. فما تعرضت له الكنيسة على مر العصور كان كفيلاً بأن يقضي عليها، لو أنها مؤسسة بشرية، ولكن نعمة الله الغنية العاملة فيها رفعتها فوق الزمان، ونصرتها على الأحداث.
تُرى ما الذي دفع الناس أن يتبعوا المسيح، ويتمسكوا به، ويحبوه هكذا حتى الموت؟ ما الذي يدفع بإنسان أن يسلك طريقًا وعِرة تؤول إلى عذاب وحرمان من مُتع العالم الحسّية، ثم في النهاية الموت العنيف؟
لم يكن الاستشهاد ثم الرهبنة، أو جهاد الخدمة والنسك.. تهورًا أو اندفاعًا عاطفيًا من المسيحيين، ولم يكن نوعًا من التعصب والتمسك الأعمى بقيم ومبادئ فقط، لكن كان الاستشهاد أعمق من هذا بكثير.
فما الذي شجّع المسيحيين ودفعهم للاستشهاد؟
(1) المعمودية
إن المعمودية المقدسة هي السر الباطن الذي يعمل فينا بقوة، ويدفعنا نحو الاستشهاد، وذلك بسبب:
أ- جحد الشيطان:
فالبديل الوحيد للاستشهاد هو عبادة الشيطان، فكيف نعبد من جحدناه في المعمودية؟ كيف ننكث عهدنا ونتقهقر إلى الضياع بعد أن أدرنا ظهورنا للظلمة والموت والشيطان؟ كيف نجبن وننكر اعترافنا بالمسيح إلهنا المحب؟
إن الموت بكل سطوته وعنفه أهون علينا من أن نرجع إلى الشيطان بعد أن تقيئناه في المعمودية.
ب- الموت الذي جزناه في المعمودية:
& "مَدفونينَ معهُ في المَعموديَّةِ" (كو2: 12).
& "نَحنُ الذينَ مُتنا عن الخَطيَّةِ، كيفَ نَعيشُ بَعدُ فيها؟ أم تجهَلونَ أنَّنا كُلَّ مَنِ اعتَمَدَ ليَسوعَ المَسيحِ اعتَمَدنا لموتِهِ، فدُفِنّا معهُ بالمَعموديَّةِ للموتِ، حتَّى كما أُقيمَ المَسيحُ مِنَ الأمواتِ، بمَجدِ الآبِ، هكذا نَسلُكُ نَحنُ أيضًا في جِدَّةِ الحياةِ؟ لأنَّهُ إنْ كُنّا قد صِرنا مُتَّحِدينَ معهُ بشِبهِ موتِهِ، نَصيرُ أيضًا بقيامَتِهِ" (رو6: 2-5).
هذه المعمودية التي مُتنا فيها جعلتنا فوق تهديد الموت، وأسمى من رُعب القبر..
& "مُبارَكٌ ومُقَدَّسٌ مَنْ لهُ نَصيبٌ في القيامَةِ الأولَى (المعمودية). هؤُلاءِ ليس للموتِ الثّاني سُلطانٌ علَيهِمْ" (رؤ20: 6).
& "فمَنْ ذا الذي يخاف من الموت وقد جازه في المعمودية، ولم يعد بالنسبة لنا موتًا بل انتقالاً" (أوشية الراقدين).
ج- الإنسان الجديد الذي أخذناه في المعمودية:
& "الإنسانَ الجديدَ المَخلوقَ بحَسَبِ اللهِ في البِر وقَداسَةِ الحَق" (أف4: 24).
& هذا الإنسان المنتمي إلى السموات والذي يشتاق إلى السموات.. "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في1: 23).
& الإنسان الذي يعتبر سكناه هنا غربة.. "نَحنُ واثِقونَ كُلَّ حينٍ وعالِمونَ أنَّنا ونَحنُ مُستَوْطِنونَ في الجَسَدِ، فنَحنُ مُتَغَربونَ عن الرَّب... فنَثِقُ ونُسَرُّ بالأولَى أنْ نتغَرَّبَ عن الجَسَدِ ونَستَوْطِنَ عِندَ الرَّب" (2كو5: 6، 8).
كيف لإنسان مثل هذا أن يهاب الموت وهو يشتهيه ويعلم "إنْ نُقِضَ بَيتُ خَيمَتِنا الأرضيُّ (الجسد الترابي)، فلَنا في السماواتِ بناءٌ مِنَ اللهِ (الجسد الروحاني الذي أخذناه في المعمودية)، بَيتٌ غَيرُ مَصنوعٍ بيَدٍ، أبديٌّ" (2كو5: 1)، "فإنَّ سيرَتَنا نَحنُ هي في السماواتِ" (في3: 20).
إن المسيحي الحقيقي يشتاق دائمًا للعودة إلى مكانه الأصلي السموات التي انتمى إليها بالمعمودية.
(2) الإفخارستيا
والإفخارستيا وقود يلهب نار المعمودية فينا، فلا تنطفئ أبدًا، وبها نأخذ:
أ- الخلود:
& "أنا هو خُبزُ الحياةِ.... هذا هو الخُبزُ النّازِلُ مِنَ السماءِ، لكَيْ يأكُلَ مِنهُ الإنسانُ ولا يَموتَ. أنا هو الخُبزُ الحَيُّ الذي نَزَلَ مِنَ السماءِ. إنْ أكلَ أحَدٌ مِنْ هذا الخُبزِ يَحيا إلَى الأبدِ. والخُبزُ الذي أنا أُعطي هو جَسَدي الذي أبذِلُهُ مِنْ أجلِ حياةِ العالَمِ.... الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنْ لم تأكُلوا جَسَدَ ابنِ الإنسانِ وتشرَبوا دَمَهُ، فليس لكُمْ حياةٌ فيكُم. مَنْ يأكُلُ جَسَدي ويَشرَبُ دَمي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الأخيرِ.... فمَنْ يأكُلني فهو يَحيا بي.... مَنْ يأكُلْ هذا الخُبزَ فإنَّهُ يَحيا إلَى الأبدِ" (يو6: 48-58).
إن مَنْ يأكل جسد الرب ويشرب دمه يخرج من الكنيسة وقد امتلأ من الحياة الحقيقية التي تهزأ بأي تهديد للموت، وتستهين بكل ألم.. فقوة الخلود التي نأخذها في الإفخارستيا أقوى من قوات الجحيم، ففينا يكون المسيح نفسه.. "الذي أقامَهُ اللهُ ناقِضًا أوجاعَ الموتِ، إذ لم يَكُنْ مُمكِنًا أنْ يُمسَكَ مِنهُ (من الموت)" (أع2: 24).
"فالمسيح هو حياتنا كلنا" (أوشية الإنجيل)، فإذا اقتنيناه فينا بالإفخارسيتا تصير فينا الحياة التي لا يغلبها موت الاستشهاد أو الموت الطبيعي.
ب- الثبات في المسيح:
& "مَنْ يأكُلْ جَسَدي ويَشرَبْ دَمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ" (يو6: 56).
هذا الثبات يؤول إلى قوة وإثمار..
& "الذي يَثبُتُ فيَّ وأنا فيهِ هذا يأتي بثَمَرٍ كثيرٍ، لأنَّكُمْ بدوني لا تقدِرونَ أنْ تفعَلوا شَيئًا" (يو15: 5).
& "إنْ ثَبَتُّمْ فيَّ وثَبَتَ كلامي فيكُم تطلُبونَ ما تُريدونَ فيكونُ لكُمْ" (يو15: 7).
& وتصير للشهيد قوة المسيح.. "إنْ كانَ اللهُ معنا، فمَنْ علَينا؟" (رو8: 31).
ج- غفران الخطايا:
"يُعطى عنّا خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمَنْ يتناول منه" (القداس الإلهي).
إن ما يزعج الإنسان ويجعله يخاف الموت هو الخطية التي تفقدنا سلامنا وثقتنا، وتهدد مستقبلنا الأبدي، فإذا كنّا ننال كل يوم الغفران بدم المسيح في الإفخارستيا.. فما الذي يرعبنا من الموت أو يهدد أمننا وسلامنا؟
فالمسيح هو غفران خطايانا وخلاصنا، لذلك فنحن نتقدم للموت بخطوات ثابتة واثقين في مراحم الرب الصادقة وغفرانه الأكيد بدمه الثمين في الإفخارسيتا.
3- التعليم الكنسي
والتعليم الكنسي في كنيستنا هدفه إعداد المؤمنين للشهادة.. "الخطاة الذين تابوا عدّهم مع مؤمنيك. مؤمنوك عدّهم مع شهدائك" (القداس الغريغوري).
لقد علّم الآباء أن الاستشهاد هو كمال المحبة، وأنه أحد البراهين على صدق المسيحية، إذ أن احتقار الموت لدى الشهداء يدل على أنهم حطموا قوى الشر التي كانت تستخدم الموت كأداتها للتعذيب، وكان القديسون يتبارون في اشتهاء الاستشهاد مثل: أغناطيوس الأنطاكي، وبطرس خاتم الشهداء.. وغيرهم، حاسبين أن الاستشهاد هو أقدس مهام الإنسان المسيحي، حيث يظهر به شهوة الاتحاد بالله.
لذلك فالشهيد في الكنيسة ينال تطويبًا خاص أكثر من كل القديسين. (راجع مجمع التسبحة حيث يترتب كالآتي: العذراء ? الملائكة ? الأنبياء ? الرسل ? الشهداء ? القديسون ? البطاركة). فأي فرح أعظم من فرح الاستشهاد!!
قال أحد الآباء: "أفضل ما يحل بنا هو أن يكون لنا موت الشهيد".. وكان رعاة الكنيسة يحفزون أولادهم على قبول الاستشهاد، كواجب حتمي على كل مسيحي حقيقي يحب الله، ويرغب في الاتحاد به، لكنهم كانوا أيضًا يحذرونهم من إثارة الحكام ورجال الدولة والجند بتهور سعيًا وراء الاضطهاد. فالمسيحي لا يهاب الموت لكن لا يطلبه بتعجل كمَنْ ينتحر.
لقد علم الآباء أن الاستشهاد هو شركة في صليب المسيح، وممارسة للحياة الإنجيلية، واستجلاب ليد الله لحضور الله فينا، كما في الأتون مع الفتية القديسين، وفي الجب مع دانيال، بالاستشهاد نصير أخوة للرسل ومحصيين معهم.
بالإجمال.. فالاستشهاد في نظر الآباء هو معبر إلى المجد الأبدي.. "آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رو8: 18).
بذلك كانت الكنيسة تشجع أبناءها على قبول الاستشهاد بفرح وحب وشغف عظيم. ولدينا شهادة مبكرة للعلامة أوريجانوس تصف حماس المسيحية للاستشهاد إذ يقول: "إذ عاد المسيحيون من المقابر بعد أن حملوا أجساد الشهداء القديسين إلى مدافنهم، اجتمعوا في الكنيسة للصلاة، وكانت تظهر عليهم علامات القداسة.. كان الجسد المسيحي (يقصد جماعة المؤمنين) كله هناك. ولم يبدو الخوف على أي منهم. هناك كان الموعوظون يتعلمون الدرس العملي، باستماعهم إلى تقارير عما قاله الشهداء القديسون لقضاتهم، وثباتهم في اعترافهم بإيمانهم حتى لحظة موتهم. إني أعرف رجالاً ونساءً مسيحيين ممَنْ شهدوا أمورًا غريبة حدثت في تلك الاجتماعات تصل إلى معجزات حقيقية".