همسات روحية<?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" />
لنيافة الأنبا رافائيل
الإنسان رب السبت
V التعليم الجديد:
عندما كان مُعلِّمنا بولس في أثنينا "أخَذوهُ وذَهَبوا بهِ إلَى أريوسَ باغوسَ، قائلينَ: "هل يُمكِنُنا أنْ نَعرِفَ ما هو هذا التَّعليمُ الجديدُ الذي تتكلَّمُ بهِ؟" (أع17: 19).
وهو نفس التعبير الذي قيل بخصوص ربنا يسوع المسيح في بداية خدمته "فتَحَيَّروا كُلُّهُمْ، حتَّى سألَ بَعضُهُمْ بَعضًا قائلينَ: "ما هذا؟ ما هو هذا التَّعليمُ الجديدُ؟" (مر1: 27).
لقد كان تعليم السيد المسيح جديدًا على مسامع الناس وأفهامهم، لذلك قيل عن سامعيه: "فبُهِتوا مِنْ تعليمِهِ لأنَّهُ كانَ يُعَلمُهُمْ كمَنْ لهُ سُلطانٌ وليس كالكتبةِ" (مر1: 22).
ولم يستطع أحد من مُعانديه أو مُناقضيه أن يهزمه في حوار أو يحرجه بسؤال.. "فقالَ قَوْمٌ مِنْ أهلِ أورُشَليمَ: أليس هذا هو الذي يَطلُبونَ أنْ يَقتُلوهُ؟ وها هو يتكلَّمُ جِهارًا ولا يقولونَ لهُ شَيئًا! ألَعَلَّ الرّؤَساءَ عَرَفوا يَقينًا أنَّ هذا هو المَسيحُ حَقًّا؟" (يو7: 25-26).. إطلاقًا لم يؤمن الرؤساء بأنه المسيح حقًا، ولكنهم عجزوا عن مواجهة منطقه وحجته وتعليمه الجديد.
V هل الله يتغير؟
"سمِعتُمْ أنَّهُ قيلَ للقُدَماءِ.... أمّا أنا فأقولُ لكُمْ...." (مت5: 21، 28). هل تعليم السيد المسيح "الجديد" معناه أن الله قد غيّر خطته بالنسبة للإنسان، أو أن فكر الله "قد تعدّل"؟
لقد حسم السيد المسيح هذه النقطة بقوله: "لا تظُنّوا أني جِئتُ لأنقُضَ النّاموسَ أو الأنبياءَ. ما جِئتُ لأنقُضَ بل لأُكَملَ" (مت5: 17).
لم يكن رب المجد ناقضًا للناموس كما ادّعى رؤساء الكهنة ليقتلوه، ولكن كان مكملاً للناموس وشارحًا له.. وما كان التغيير في فكر الله بل كان يجب أن يكون في فهم الناس واستيعابهم لفكر الله.
لقد انحرف البشر في إدراك مقاصد الله، وجاء المسيح ليكشف لنا هذه المقاصد الأزلية "أنا قد جِئتُ نورًا إلَى العالَمِ، حتَّى كُلُّ مَنْ يؤمِنُ بي لا يَمكُثُ في الظُّلمَةِ" (يو12: 46).
V نموذج للشرح:
حفظ السبت
جاء الناموس "اُذكُرْ يومَ السَّبتِ لتُقَدسَهُ. سِتَّةَ أيّامٍ تعمَلُ وتصنَعُ جميعَ عَمَلِكَ، وأمّا اليومُ السّابِعُ ففيهِ سبتٌ للرَّب إلهِكَ. لا تصنَعْ عَمَلاً مّا أنتَ وابنُكَ وابنَتُكَ وعَبدُكَ وأَمَتُكَ وبَهيمَتُكَ ونَزيلُكَ الذي داخِلَ أبوابِكَ...." (خر20: 8-11).. وفهم الناس هذه الوصية على أنها قيد عنيف يحد حركتهم ويمنعهم من أي عمل حتى لو كان لخدمة الآخرين.. حتى إنهم كانوا ينتقدون المسيح بكل عنف لأنه يشفي مريضًا يوم السبت.. وينسون القيمة الجبارة في شفاء رجل مولودًا أعمى أو إقامة لعازر أو شفاء ذي اليد اليابسة، ويقولون عن المسيح" "هذا الإنسانُ ليس مِنَ اللهِ، لأنَّهُ لا يَحفَظُ السَّبتَ" (يو9: 16)، وكان السبت في نظرهم أهم من الرجل المريض أو حتى الميت الذي قام، وتشاوروا لكي يقتلوا لعازر "فتَشاوَرَ رؤَساءُ الكهنةِ ليَقتُلوا لعازَرَ أيضًا" (يو12: 10)، إكرامًا للسبت.
لقد حفظ السيد المسيح السبت بمنهج جديد وغريب، كان مواظب على المجمع يوم السبت كعادة اليهود (راجع لو6: 6، مر1: 21، مر6: 2).
وكان هناك يجتمع إليه المرضى فيشفيهم، حاسبًا أن شفاء مريض ليس كسرًا للسبت، أما اليهود فكانوا يغتاظون جدًا بسبب الإبراء في السبت "فأجابَ رَئيسُ المَجمَعِ، وهو مُغتاظٌ لأنَّ يَسوعَ أبرأَ في السَّبتِ، وقالَ للجَمعِ: هي سِتَّةُ أيّامٍ يَنبَغي فيها العَمَلُ، ففي هذِهِ ائتوا واستَشفوا، وليس في يومِ السَّبتِ!" (لو13: 14).
ولم يترك السيد المسيح اليهود في جهلهم بل شرح لهم مقصده المقدس:
(1) "يا مُرائي! ألا يَحُلُّ كُلُّ واحِدٍ مِنكُمْ في السَّبتِ ثَوْرَهُ أو حِمارَهُ مِنَ المِذوَدِ ويَمضي بهِ ويَسقيهِ؟" (لو13: 15).
(2) "مَنْ مِنكُمْ يَسقُطُ حِمارُهُ أو ثَوْرُهُ في بئرٍ ولا يَنشُلُهُ حالاً في يومِ السَّبتِ؟" (لو14: 5).
(3) "في السَّبتِ تختِنونَ الإنسانَ. فإنْ كانَ الإنسانُ يَقبَلُ الخِتانَ في السَّبتِ، لِئلا يُنقَضَ ناموسُ موسَى، أفَتَسخَطونَ علَيَّ لأني شَفَيتُ إنسانًا كُلَّهُ في السَّبتِ؟ لا تحكُموا حَسَبَ الظّاهِرِ بل احكُموا حُكمًا عادِلاً" (يو7: 22-24).
(4) "أو ما قَرأتُمْ في التَّوْراةِ أنَّ الكهنةَ في السَّبتِ في الهيكلِ يُدَنسونَ السَّبتَ وهُم أبرياءُ؟" (مت12: 5).. لأنهم يقدمون ذبائحًا وبخورًا وصلوات في الهيكل، فيسألهم المسيح هل هذا يعتبر تدنيسًا للسبت؟
(5) "أما قَرأتُمْ ما فعَلهُ داوُدُ حينَ جاعَ هو والذينَ معهُ؟ كيفَ دَخَلَ بَيتَ اللهِ وأكلَ خُبزَ التَّقدِمَةِ الذي لم يَحِلَّ أكلُهُ لهُ ولا للذينَ معهُ، بل للكهنةِ فقط" (مت12: 3-4).
(6) "إذًا يَحِلُّ فِعلُ الخَيرِ في السُّبوتِ!" (مت12: 12).
(7) "فإنَّ ابنَ الإنسانِ هو رَبُّ السَّبتِ أيضًا" (مت12: 8).
(8) "السَّبتُ إنَّما جُعِلَ لأجلِ الإنسانِ، لا الإنسانُ لأجلِ السَّبتِ" (مر2: 27).
لقد خرج المسيح بهذه النتيجة النهائية إن "الإنسان هو القصد".
V الإنسان في فكر المسيح:
لاشك أن المسيح جاء من السماء ليشفي الإنسان ويحييه، وما جاء إطلاقًا ليخضع لآراء وأفكار الشعوب الباطلة وفهمهم القاصر لمقاصد الله.
جاء الله متجسدًا ليرفع من قيمة الجسد والإنسان، وليعلن لكل الخليقة أن الإنسان كائن محترم ومقدس، حتى إن الله اتحد به.
جاء ابن الله ليصير ابن الإنسان، وتلاحظ أن السيد المسيح كان يعتز جدًا بهذا اللقب "ابن الإنسان" لأنه يحترم الإنسان ويحبه.
V الكنيسة تتبنى فكر المسيح:
عندما رتبت الكنيسة طقوسها لم يكن يدور بمخيلة الآباء الفكر اليهودي الجامد الحرفي، ولكنها كانت مشغولة بالروح.. كيف - من خلال الطقس - تقدم للإنسان وسائل ناجحة ليرتبط بالمسيح ويتعمق فيه. كيف ? من خلال الطقس ? تشغل كل الحواس لترى وتسمع وتلمس وتستنشق كل ما هو سماوي وكل ما هو روحاني وكل ما هو إلهي.
فالبخور وملابس الكهنوت والأنوار والأيقونات والشموع والمذبح والميطانيات والمزامير والألحان والموسيقى، بل والخبز والخمر والزيت والماء.. وتنظيم القراءة وترتيب الأعياد وتنوع الليتورجيات.. كل هذا إنما جُعل لأجل الإنسان، ومن خلاله يرتفع الإنسان إلى السماء "ارفعوا قلوبكم"، ونصير شركاء السمائيين "احسبنا مع القوات السمائية"، ونرتقي في الفكر والحواس، وتتهذب مشاعرنا، وتنمو عواطفنا الروحية، ونلتقي بالله بل ونتحد به خلال السر المقدس الذي لجسده الإلهي ودمه الكريم الطاهر نصير بالحق "شركاء الطبيعة الإلهية" إذ قد "وهَبَ لنا المَواعيدَ العُظمَى والثَّمينَةَ" (2بط1: 4).
لقد نجحت الكنيسة ? مسوقة بالروح القدس ? في أن تستجلب لنا السماء على الأرض، أو قل إنها تصعدنا في كل يوم للسماء لنتذوق بهاء الملكوت أو مجد الأبدية، فتشتاق نفوسنا بالأكثر إليها.
إذا غابت هذه المفاهيم عن أذهان العابدين، فسنرتد مرة أخرى إلى الفكر اليهودي الضيق، والمنهج الفريسي المتزمت حيث ينشغل الإنسان بتوافه الترتيبات دون أن يتمتع ببهاء ممارستها.
الممارسة تتطلب الأمانة لا الاستهانة.
والأمانة تتطلب المعايشة لا السفسطة.
والمعايشة للطقس تتطلب فهمًا ووعيًا وروحانية،
ممارسة لذيذة مشبعة مفرحة،
وتلاقي حقيقي بالمسيح من خلال كل قداس، وفي كل صلوة، ومع كل مناسبة.
ما أجمل كنيستنا الرائعة..
"الرَّبُّ إلهُكِ في وسطِكِ جَبّارٌ. يُخَلصُ. يَبتَهِجُ بكِ فرَحًا. يَسكُتُ في مَحَبَّتِهِ. يَبتَهِجُ بكِ بترَنُّمٍ"
(صف3: 17)