<?xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" />
البَرَكة واللعنة
الكلام على البَرَكة، في الكتاب المقدّس، كثير. ثمّة تسع وسبعون وثلاثمائة مرة استُعملت فيها اللفظة أو مشتقّاتها. وجوه استعمالها عديدة.
منها البَرَكة الأرضية ومنها البرَكَة السمائية.
أول ما خلق الله الإنسان كان أن "باركهم... وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تك 1: 28).
وآخر ما يُنجز به الله الإنسانَ قوله:
"تعالوا يا مبارَكي أبي رِثُوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34).في الأول كانت البَرَكة دلالتُها النماء والزيادة والإرث والسيادة بنعمة الله.
وفي الأخير ستكون ميراثاً جديداً، إقامةً، بابن الله المتجسّد، في الله الآب، إلى حياة أبديّة.
لذا ورد في سفر الرؤيا "رأيت سماء جديدة وارضاً جديدة لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحرُ لا يوجد في ما بعد" (رؤ 21: 1). ثمّة مَن يعيد جذر لفظة "البَرَكة" إلى الركوع وإلى إناخة البعير في موضع ما.
فإن بَرَك البعيرُ في المكان لَزِمه. في البَرَكة، إذاً، ملازمة.
يلزم الإنسان الله ويَلزمه الله. لذا كُتب عن الحال في أواخر الدهور أنّي "سمعتُ صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموتُ لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأنّ الأمور الأولى قد مضت" (رؤ 21: 3 ? 4).
وإذا كان الله مبارِكَ الإنسان فالإنسانُ أيضاً يُبارِك الله.
"كذلك أباركك في حياتي وباسمك أرفع يديّ" (مز 62: 4). كأنّنا بالإنسان، إذ ذاك، متى بارك الله، يكون مقتبلاً لبَرَكة الله، متفاعلاً معها، مُقِرّاً بها، مذيعاً لها. هذا يفترض أن يأخذ الإنسان على عاتقه أن لا يتعاطى أمراً إلاّ ببركة الله في روح القول:
"التي لكَ مما لك نقدّمها لك على كل شيء ومن جهة كل شيء". يقدِّس كل شيء بكلمة الله. يردّ كل شيء إلى سيادة الله. يشكر الله على كل شيء من حيث إنّنا "به نحيا ونتحرّك ونوجَد" (أع 17: 28)
ومن حيث إن "به كان كلُّ شيء وبغيره لم يكن شيء مما كُوِّن" (يو 1: 3).
بَرَكة الله للإنسان لا تتفعّل فيه ولا تثبت إلاّ بمباركة الإنسان لله في كل حين وفي كل حال. طبعاً الله يبارِك أولاً، هو المبادر، لكن الإنسان يستجيب أيضاً بالبَرَكة. يقول لله "الآمين".
"لجّة تُنادي لجّة". الإنسان متعلِّمٌ أبداً لغةَ الله. يكلِّمه بكلامه. مآل الناس أن يكونوا لله أمّة أنبياء. "ها قد جعلتُ كلامي في فمك" (إر 1: 9).
يسلك الإنسان في وصايا إلهه ويكرز بها. هكذا يبقى عشير الله. كلامه من دون كلام الله لغوٌ. لذا لا تثبت بَرَكة الله بين الناس إلاّ بالطاعة من حيث هي الاستجابة للبَرَكة بالبَرَكة. من هنا القول العزيز في سفر التثنية:
"إن سمعتَ سَمْعاً لصوت إلهك لتحرصَ أن تعمل جميع وصاياه... تأتي عليك جميع هذه البَرَكات... مبارَكاً تكون في دخولك ومبارَكاً تكون في خروجك..." (تث 28).
كان الإنسان في الفردوس متمتّعاً ببَرَكة الله. كل ما في الفردوس كان يقتبله كَمِن يد الله. كل شيء كان أداة وصال مع الله، كان رسْمَ محبّة الله. كل الخليقة وشوشت في أذنيه محبّة الله.
وردّ الإنسان بالطاعة والشكْران على نحو ما قيل، فيما بعد، في المسيح: "اشكروا في كل شيء لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم" (1 تسا 5: 18).
ثمّ بطاعة الإنسان لله خضعت له الخليقة.
في سفر التكوين، قبل السقوط، أحضر الله حيوانات البرّية وكلَّ طيور السماء إلى آدم ليرى ماذا يدعوها وكل ما دعا به آدم ذات نفس حيّة فهو اسمها (تك 2).
هكذا اعتُلنت سيادة الإنسان على الأرض، بالطاعة لله التي استتبعت رعايته لخليقة الله بمحبّة الله. مَن تعطيه اسماً تكون سيِّداً عليه. كل شيء كان، في هذا السياق، بأمر الله، في خدمة آدم. العناصر أيضاً كانت تطيعه، بنعمة الله، كما أطاعت الربّ يسوع في إنسانيته الفردوسية لمّا زجر البحر والرياح (مت 8: 27).
ولكنْ، حالما خرج الإنسان عن طاعة الله حلّت به اللعنة. اللعنة هي الخروج من نطاق الله، سقوط نعمة الله منه.
اذا كان كل شيء لينتظم بالبَرَكة فكل شيء ينفرط باللعنة. لذا قال كاتب سفر الحكمة: "الإثم يجعل من الأرض كلِّها قفراً" (حك 5: 23).
"تقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة".
"إن لم تسمع لصوت الربّ إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه... ملعونةً تكون سلّتك ومعجنك. ملعونةً تكون ثمرة بطنك... ملعوناً تكون في دخولك وملعوناً تكون في خروجك..." (تث 28: 15 - ). يدخل الإنسان، إذ ذاك، نطاق لعنة قايين. كل أيام حياته يكون هروباً من لعنة إلى لعنة، ولا هروب من المصير.
الكل يكون، في هذه الحال، في انقسام، في تفكّك، في تضاد، في صراع. حكمة الإنسان غباء بإزاء حكمة الله ومآلُها الإنحلال والموت. لذا قالت الحكمة في سفر الأمثال: "مَن يخطئ عني يضرّ نفسه. كل مبغضيّ يحبّون الموت" (أم 8: 36).
أما بعد فإنّ المؤمن بيسوع دأبُه أن يبارك كل شيء. لا يتعاطى شيئاً إلاّ بالبَرَكة. هذا فِعْلُ إيمان لديه. وكل شيء قابل للبَرَكة إلاّ الخطيئة. لذا نتروّض، في المسيح، على الإقامة في نطاق الله. كل شيء نقدّمه لله، نرفعه قرباناً إلى الله، نتعاطاه أداة وصال مع الله.
همّنا لا ما هو بين أيدينا بل الذي أعطانا ويعطي الجميع بسخاء (يع 1: 5).
كل شيء نقتنيه أو نؤدّيه قيمتُه أنّه برسم البَرَكة، ولا يليق بنا أن نتعاطاه، كمؤمنين، إلاّ بالبَرَكة، الطعام والشراب واللباس والدواء. لا نباشر عملاً إلاّ بالبَرَكة ولا ننهيه إلاّ بالشكران.
نبارك الله في كل حال ونشكر على كل شيء، على ما يريحنا وعلى ما يزعجنا، على ما نرغب فيه وعلى ما نرغب عنه إذا ما حصل لنا.
نسأل برَكَة الكنيسة على بيوتنا وعلى أرزاقنا. ونذكر الله على كل صغيرة وكبيرة. لا شيء في هذه الدنيا مهمّ في ذاته ولا عين المؤمن فيه. نطلب معاينة يسوع في كل شيء. نستدعي يسوع على كلّ شيء.
بذا يكون لكل شيء اعتبار. يعطينا الربّ الإله القليل أو الكثير، هذا ليس ما يشغلنا. ما يشغلني في شأن القنية أمران عبّر عنهما كاتب سفر الأمثال بالقول: "أبعد عنّي الباطل والكذب. لا تعطني فقراً ولا غنى. أطعمني خبز فريضتي. لئلا أشبع وأكفر وأقول مَن هو الربّ. أو لئلا أفتقر وأسرق وأتّخذ اسم إلهي باطلاً" (أم 30: 7 ? 9).
والله معطيَّ لأن "أعين الكل إيّاك تترجّى وأنتَ تعطيهم طعامهم في حينه". ليست حياة الإنسان مما لديه ولا بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله.
هذا هو الخبز النازل من فوق الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أن ندخل في نطاق الله، أن نلتمسه، أن نلتمس كلمته، شخصه، حضوره، بَرَكته في القليل وفي الكثير، في ما لنا وفي ما ليس لنا طالما الوصيّة هي:
"اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكموه ابن الإنسان" (يو 6: 27). نصيبي وقع لي في أفضل الأراضي. نصيبي هو الربّ. أرضي جسدُه.
ليس همّنا أن نستقي ماء أو شبه ماء في هذا الدهر، هذا نحصّله بطريقة أو بأخرىِ، في أوانه ووفق الحاجة.
الله يعطي كل شيء بزيادة. المهم أن نلتمس التسليم الكامل لمَن قال: "مَن آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حيّ". عينك ليست في ما هو ههنا بل في الملكوت.
ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية. لذلك نطلب الملكوت أولاً. نطلب وصيّة الله، نطلب حضوره، نطلب محبّته، نطلب رضاه. بالقليل القليل ههنا نحظى بالكثير الكثير هناك. المهم أن يكون هو قِبلة العين لنحظى بمَن كانت الخليقة من أجله، أن يكون هو نَفَس أنوفنا، أن نراه مرتسماً إيقونةً في كل وجه، أن نميّز محبّته في آلامنا وأفراحنا سواء بسواء، في يُسرنا وفي عسرنا.
كل شيء جعله يسوع للبَرَكة حتى الألم والموت إلاّ الخطيئة. لذلك كل شيء نقتبله، من الآن فصاعداً، بالبَرَكة. المهم أن نَلقى يسوع في كل شيء، أن نطالع وجهه في كل شيء. كل شيء للمؤمن يسوع، فيه يستشفّه لأنّه مقيم بالنعمة فيه. هذا لسان حال المؤمن في كل حال: "لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوباً" (1 كو 2: 2). "الحياة لي هي المسيح والموت ربح".
ما يصدح به طالب البَرَكة، الموجوع المتيَّم بمحبّة يسوع، هو هذا:
"في ما بعد لا يجلب أحد عليّ أتعاباً لانّي حاملٌ في جسدي سمات الربّ يسوع" (غلا 6: 7).