بِعَدَم المُشاوَرَةِ تَفشَل المَقاصِد و بِكَثرً ةِ المُشيرينَ تُحَقَق (ام 15 /22)
التطويبات شريـعة العهد الجديد - الأب جورج أبي خازن
التطويبات
شريعة العهد الجديد
الأب جورج أبي خازن
مقدمة
تشمل الشريعة في العهد القديم تشريعات عدة ومواد من كل صنف، لأنها تنظم حياة شعب الله في كل القطاعات. فهناك توصيات خلقية، تبرز خاصة في الوصايا العشر (خر20: 2-17، تث5: 6-21)، تذكر مطالب الضمير البشري الأساسية.
هناك قواعد قانونية موزعة في مجموعات عديدة، تخص مختلف نواحي الحياة وترتب العمل بنظم المعاملات المدنية (الأسرية، الإجتماعية، الإقتصادية، والقضائية) . وتوصيات تخص العبادة في طقوسها، وخدامها وشروط إقامتها وقواعد خاصة بالتطهير والطاهر والنجس. ولم يترك شئ للمصادفة.
والتعبير العبري للشريعة هو "توراه" والتعبير اليوناني الوارد في الترجمة السبعينية هو "نوموس" وبالعربية "ناموس". ويطلق العهد الجديد اسم " الشريعة " على هذا النظام كله (رو5: 20) تمييزاً له عن تدبير النعمة الذي أسسه يسوع المسيح (رو6: 15 ويو1: 17) . ولو أن العهد الجديد يتكلم هو أيضاً عن "شريعة المسيح" (غل6:2) والوصايا ذات الصبغة الإلزامية (مثل الوصايا العشر) تشكل أوامر مباشرة، بها يعرّف الله مشيئته لشعبه. "فالتوراة" أو "الشريعة" هي تعليم مُعطى بصفة آمرة وملزِمة باسم الله نفسه.
وهذه الأوامر والمتطلبات تؤلف مدرسة قاسية. لها الفضل في إعداد وتدريب "الشعب القاسي الرقبة" على السير في طريق القداسة، التي يدعوه الله إليها.
إن موقف يسوع من الشريعة القديمة واضح؛ فالشريعة في ملكوت الله "لا ينبغي أن تُلغى بل أن تُتمّم حتى آخر ياء أو نقطة (متى5: 17-19) ومع ذلك فإن يسوع، وهو يعلن إنجيل الملكوت، يفتتح نظاماً جديداً كل الجِدّة فالشريعة والأنبياء ينتهي أمرهما مع يوحنا المعمدان (لو16: 16). وخمر الإنجيل لا يمكن صبها في آنية عتيقة خاصة "بشريعة سيناء". وقاعدة السلوك الواجب اتّباعها في هذا الملكوت هي شريعة كمال اقتداءً بكمال الله الآب (متى5:21-48) وشريعة الملكوت تُلخَص في وصية واحدة "محبة الله والقريب "أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا" (يو15: 12) (مر12: 28-34). وتعلّموا مني أني وديع ومتواضع القلب (متى11: 29). وهي تحوي كل الشريعة والأنبياء. (متى7: 12). وموسى يتلاشى الآن: ففي ملكوت السماوات ليس سوى معلم واحد (متى23: 10) ويتعيّن على البشر أن يُصغوا لكلمته ويعملوا بها (متى7: 24-26) لأنهم بذلك إنما يعملون مشيئة الله الآب (متى7: 21-23). وكما أنّ اليهود المؤمنين، طبقاً للعبارة الحاخامية، كانوا يحملون نير الشريعة، كذلك ينبغي الآن حمل نير المسيح، والإنتماء إلى مدرسته (متى11: 29) وكما أن مصير الناس والشعب كان يتحدد تبعاً لموقفهم من الشريعة. فإنه من الآن وصاعداً سيتحدد تِبعاً لموقفهم من يسوع (متى10: 32-33).
يسوع هو كمال الشريعة والأنبياء، ولا بد من المرور به لندخل إلى ملكوت السماوات. فالشريعة والبر والأنبياء تأخذ بعدها الحقيقي من يسوع وفي شخص يسوع.
ويسوع لم يأتِ بشرائع جديدة لتحل محل القديمة بل هناك طريقة جديدة تماماً، طريقة انجيلية في ممارسة الوصايا: هي أن نعيشها كأبناء في الإبن الوحيد.
كانت الشريعة المربي الذي يقود إلى المسيح (غل3: 24) وفي المسيح التقت بربها وأنهت عملها كمربية.
إذاً نحن هنا أمام الشريعة الجديدة التي لا نجدها فقط في إنجيل متى والمعروفة بعظة الجبل بل في شخص يسوع نفسه في سره العميق: هو الطريق الحق الحياة النور. هو المعلم وهذه الصفات كانت من وظائف الشريعة.
سُئِل يوماً ايريناوس: ماذا حمل لنا الرب في مجيئه؟ أجاب: اعلموا أنه حمل لنا كل جديد. حمل إلينا ذاته.
التطويبات شريعة العهد الجديد
يُشبِّه متى الإنجيلي يسوع، وهو يَعِظ على الجبل، بموسى وهو يُعِلن للعبرانيين في سيناء شريعة الرب. وكما أن موسى بدأ إعلانه الشريعة بالوصايا العشر، كذلك بدأ يسوع إعلانه بالتطويبات التي هي شرعة العهد الجديد، إنها خلاصة ما سيقوله يسوع ويُعلِّمه في أثناء حياته الأرضية وما سيعشه. هي الإنتقال من مُلْك الشريعة إلى شريعة الملكوت.
و"الجبل" هو تلميح إلى جبل سيناء الذي عليه تقبّل موسى الشريعة. "وفي يسوع كانت تُدوّي كلمة الله نفسها التي دوّتْ على جبل سيناء لتعطي موسى الشريعة المكتوبة والتي تُسمع أيضاً على جبل التطويبات" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 581). فيسوع هو المُشترِع الذي يُعِلن البشارة ويُقدِّم شرعة الملكوت ويسير بالشريعة القديمة لكي تصل إلى كمالها.
وتُقدَّم التطويباتُ على أنها كمال الشريعة. شريعة ملكوت السماوات الذي اقترب والذي يتطلّب التوبة (متى3: 2 و4: 17)، والذي صار حاضراً في التطويبة الأولى والتطويبة الثامنة.
التطويبات
متى5: 1-12.
فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس، فدنا إليه تلاميذه فشرع يُعلِّمهم قال:
- طوبى لفقراء الروح فإنّ لهم ملكوت السماوات.
- طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض .
- طوبى للمحزونين فإنهم يُعزَّون.
- طوبى للجياع والعِطاش إلى البر فإنهم يُشبَعون .
- طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون.
- طوبى لأطهار القلوب فإنهم يشاهدون الله .
- طوبى للساعين إلى السلام فإنهم أبناء الله يُدعَون.
- طوبى للمُضطهدين على البِرّ فإن لهم ملكوت السماوات .
- طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كَذِب من أجلي، افرحوا وابتهجوا: إنّ أجركم في السماوات عظيم، فهكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم .
يُشبِّه متى الإنجيلي يسوع، وهو يَعِظ على الجبل، بموسى وهو يُعِلن للعبرانيين في سيناء شريعة الرب. وكما أن موسى بدأ إعلانه الشريعة بالوصايا العشر، كذلك بدأ يسوع إعلانه بالتطويبات التي هي شرعة العهد الجديد، إنها خلاصة ما سيقوله يسوع ويُعلِّمه في أثناء حياته الأرضية وما سيعشه. هي الإنتقال من مُلْك الشريعة إلى شريعة الملكوت.
متى5: 1-12.
فلما رأى الجموع صعد الجبل وجلس، فدنا إليه تلاميذه فشرع يُعلِّمهم قال:
- طوبى لفقراء الروح فإنّ لهم ملكوت السماوات.
- طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض .
- طوبى للمحزونين فإنهم يُعزَّون.
- طوبى للجياع والعِطاش إلى البر فإنهم يُشبَعون .
- طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون.
- طوبى لأطهار القلوب فإنهم يشاهدون الله .
- طوبى للساعين إلى السلام فإنهم أبناء الله يُدعَون.
- طوبى للمُضطهدين على البِرّ فإن لهم ملكوت السماوات .
- طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كَذِب من أجلي، افرحوا وابتهجوا: إنّ أجركم في السماوات عظيم، فهكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم .
لو6: 20-26 .
ورفع عينيه نحو تلاميذه وقال:
- طوبى لكم أيها الفقراء فإن لكم ملكوت الله .
- طوبى لكم أيها الباكون الآن فسوف تضحكون.
- طوبى لكم أيها الجائعون الآن فسوف تُشبعون.
- طوبى لكم إذا أبغضكم الناس ورذلوكم وشتموا اسمكم ونبذوه على أنه عار من أجل ابن الإنسان.
افرحوا في ذلك اليوم واهتزوا طرباً، فإن أجركم في السماء عظيم . فهكذا فعل أباؤهم بالأنبياء.
لكن
*الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم.
*الويل لكم أيها الشِباع الآن فسوف تجوعون.
* الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون.
* الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس فهكذا فعل أباؤهم بالأنبياء الكذابين.
1- بعض التعاريف:
1-1. طوبى:
طوبى كلمة سريانية تعني السعادة والهناء. ومنها اشتُقَ لقب "طوباوي" الذي يطلقُ على كل من عاش سيرة صالحة، وذلك قبل إعلان قداسته.
تَظهرُ كلمةُ "طوبى" = هنيئاً في أماكن كثيرة من العهد الجديد. حين استقبلت أليصابات مريم العذراء قالت لها: "طوبى لمن آمنت" (لو1: 45) .
وهتفت امرأة مُعجَبة بيسوع وتعاليمه: "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما" فأجاب يسوع: "بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها" (لو11: 27-28)، وقال يسوع لسمعان بن يونا: "طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات" (متى16: 17).
"فالطوبى" في النصوص التي ذكرناها أُطلِقت على من أظهر قيماً أخلاقية أو دينية في موضع معين أو سلك سلوكاً معيناً. قيلت:
- للعذراء مريم من أجل إيمانها.
- ليسوع لأنه وضع رباط الروح بالله فوق رباط اللحم والدم وصِلة القربى.
- لسمعان بطرس لأنه اكتشف حقيقة يسوع واعترف به مسيحاً: رجاء الشعب ومخلصه.
فكلمة "طوبى" إذاً هي كلمة تصف الإنسان السعيد حقاً. الإنسان الصادق. الإنسان الحقيقي. وهي تُعلِن الطريقة التي يمكننا أن نكون بها حَمَلَةً للإنجيل، وتلاميذ حقيقيين ليسوع، أي رجالاً ونساءً سعداء.
"طوبى" هي إذاً إعلان تهنئة من اجل حالة من السعادة أو الفرح الآتي.
"طوبى" هي إعلان السعادة وعِلّة هذه السعادة.
1-2. ملكوت السماوات :
تشير كلمة سماوات في الكتاب المقدس إلى الساكن في العُلى، أي الله. ملكوت السماوات يعني ملكوت الله. فما هو هذا الملكوت الموعود والذي نذكره في صلاة أبانا ونقول : "ليأتِ ملكوتك"؟ "ملكوت" لا يعني مكاناً أو أرضاً يقوم عليها الملكوت.
الكلمة اليونانية تشير إلى فعل: عمل القيام بالمُلْك. فالملكوت يعني تدّخلٌ قوي من الله الذي يأتي للقاء الإنسان، الذي يأتي ليملك على البشرية جمعاء. هو أنّ الله يأتي إلينا ويمارس سلطته المَلَكية بطريقة تفوق انتظاراتنا أو رجاءنا. ولا يُمِكن لأي لغة بشرية أن تصف بطريقة وفيّة روعة هذا الفعل الملكي وعظمته.
إن وصف ملكوت السماوات عملية صعبة وسهلة في آن واحد. فالملكوت واسع سِعة عمل الله المطلق فينا وفي العالم. وفي الآن نفسه يستطيع الطفل أن يستوعبه. بل ربما لا يستوعبه إلا الطفل. "أحمدك يا أبت" (متى11: 25).
الملكوت يحمل احتياجاتنا ورغباتنا في الحياة والحب والمحبة والحق والصداقة والعدل...الخ ولكنه لا يلبّيها بحسب انتظاراتنا، بل بطريقة لا يستطيع أي انتظار بشري أن يحدده أو يحتويه أو يدركه.
ملكوت السماوات هو محبة الله. لأن الله محبة. مبدؤها احترام الإنسان في حريته وهدفها تحريره من نير عبودية الخطيئة وجميع أشكال الشر ومظاهره ونتائجه. وغايتها أن تُدخِلنا في حياة لا تعرف الموت.
"ملكوتك يا رب، أسلوبك في المُلْك علينا. يفوق دوماً كل ما يُمكننا أن نتمتمه بكلمات ومقولات مُستنبطة من اختبارنا البشري الهزيل المحدود.
"ملكوتك هو محبتك الأبوية الفاعلة. إنك تُظِهر نفسك لنا دوماً أباً، بينما نكتشف أننا عبيد، عبيد أمور سلبية كثيرة كالخطيئة والشيطان والأهواء والجهل والمرض والموت. ملكوتك هو أنت، يا من يحب أبناءه أحراراً وذوي كرامة. فأنت يارب تنقذنا من الألم والخطيئة ومن المرض والعجز عن المحبة. وتجعلنا نحب حقاً، أي نحب كما أحب يسوع. ملكوتك يجعلنا في حياة أقوى من الموت" (الكاردينال كارلو مارتيني).
2-1. طوبى...!
هذا أمر اتفق عليه متى ولوقا، ولكن مع بعض الإختلاف.
تتناول وجوه الإختلاف هذه أولاً تلك الخطبة التي تشكل التطويبات مُستهلَّها. فمتى يستهلُّ خُطبة طويلة من ثلاثة فصول (متى5-7)، نسميها عظة الجبل. ولوقا يستهل خُطبة "السهل" في مكان منبسط (لو6: 17)، وهي أقصر بكثير (لو6: 20-47). وهذه الخُطبة الأخيرة نكاد نجدها كلها في متى. ولكن وجهتي نظرهما تختلفان بعض الإختلاف. تكاد خُطبة لوقا تُركِّز على محبة القريب دون سواها. أما متى فإنه يهتم بالطريقة التي تشكل بها متطلبات الإنجيل تجاوزاً بالنسبة إلى الشريعة اليهودية.
هناك فرق بعدد التطويبات. وهناك فرق في المضمون: فالداعي إلى السعادة يختلف على ما يبدو بين متى ولوقا. يتصور لوقا أوضاعاً شاقة : طوبى للفقراء... طوبى لكم أيها الجائعون... بينما ينظر متى إلى مواقف باطنية وأحوال روحية: طوبى لفقراء الروح... طوبى للجياع والعطاش إلى البر... الخ. فلا عجب بذلك لأن أقوال يسوع هي رسالة حياة وأمور وُجدت ليعيش الإنسان بموجبها فتكون له الحياة. فلا يفهمها على حقيقتها إلاَّ من عاشها.
لقد أضاف لوقا أيضاً موازاة للتطويبات الأربع "طوبى لكم" أربع مرات "الويل لكم"، وهذه الويلات موجَّهة إلى من يضع ثقته وأمانه بنفسه وأمواله وإلى من يعتقد بأن سعادته تكمن في رَغَد الحياة وملذاتها وبتصفيق الناس له ومدحهم إياه.
والقديس غريغوريوس النيصي في عظاته عن التطويبات يقول: "كل يسعى إلى الخير والسعادة ولكن الفشل يكمن في عدم التمييز بين الخير والسعادة الحق، وبين ما نظنه أو يُخيّل لنا بأنه السعادة والخير".
وصفحة التطويبات هذه هي أصعب ما نواجِه وهي تُشكل التحدي الأكبر لإنسان العصر، حتى للإنسان المؤمن فهي تُبيّن التناقض الفاضح بين ما نعيشه وبين ما يعرضه علينا المسيح في التطويبات. هو عرض بعكس التيار يتعارض مع عقلية إنسان اليوم وما تصوره وسائل الإعلام ومجتمع الإستهلاك، وتقديس الجسد والغِنى والعظمة والقوة واللذة... التطويبات ومن يرغب بعيشها اليوم ؟! .ولكنها، أي التطويبات، هي طرح الإنجيل لتلبية رغبة الإنسان في تحقيق ذاته وحاجته للسعادة. بوجه عام يشعر بعض المسيحيين بنوع من عدم الراحة تجاه هذه التطويبات. فهي تتكلم بطريقة معينة على الملكوت الذي أتى به يسوع. وهو ملكوت لا يعتمد على منطق البشر. فالعالم الذي نعيش فيه مبني على مبدأ الحياة للأقوى والأعنف والأغنى، وتتربع على ذروته المِتع الأرضية والملذات، بينما يبين يسوع في كلامه على الملكوت وكأنه يميل في اختياره إلى الفقراء والحزانى والمضطهدين وكل من ينبذهم العالم.
ولكن المسيح يتجاوز هذه التوترات بدون مساومة. فالتطويبات هي وصف لأهل الملكوت. إنها تعلن عن طباع الجماعات التي تقيم فيه: أنقياء القلوب، رحماء، ساعون إلى السلام... إنهم سعداء ويشرح يسوع في التطويبات سبب سعادتهم... التطويبات بشرى يقلب فيها يسوع سُلّم القيم فيثني على موقف الفقراء والودعاء والمتواضعين والصغار ويشجب، خاصة في لوقا موقف الأغنياء والشِباع (لو6: 20-23). التطويبات إعلان لمحبة الآب الرحيم الذي يرغب أن يُخلِّص الضالين ومَن لا حيلة لهم.
ولكن التطويبات التي هي جزء من "عظة الجبل" تتوجّه إلى التلاميذ وبالتالي إلى جميع المسيحيين.
2-3. "التطويبات" الإنجيلية ترتبط بفن أدبي قديم كان قد دخل دخولاً عميقاً إلى العالم اليهودي في زمن يسوع، فامتزجت بمواضيع توراتية: "طوبى لمن تزوج امرأة عاقلة. طوبى لمن وجد الحكمة. ولكن لا أحد يتفوق على "من يخاف الرب" (سي25: 7-11)، وسعادة صاحب المزامير هي ثقة شخصية بالله وإنْ سَخِرَ منها المُترفِّعون. هي تعلق بوصايا الله وحفظها. وبفضل السياق الذي وردت فيه، نستطيعُ أن نكتشف السِمات الكبرى للتطويبات الإنجيلية وهنا نلاحظ توجّهات أساسية أربعة:
الأول: سعادة تجد ينبوعها في حضور يسوع ونشاطه وهو يتركز على المسيح (لأجل اسمي).
الثاني: سعادة أُخْروية اسكاتولوجية ترتبط بنهاية الأزمنة ولكنها تبدأ منذ اليوم.
الثالث: ليست هذه السعادة مُعْطَية ملموسة من معطيات الخبرة، ولا انصياعاً هادئاً لنصيب أُعطي لكل مولود (لايستطيع أن يفعل شيئاً فيقبل حظه وكأنه القدر). هذه السعادة قد أعلنها يسوع، ووعد بها وأعطاها للذين يسمعون كلمته ويعملون بها بإيمان وسط الواقع القاسي والظروف الصعبة. هي سعادة تبدو بشكل مفارقة؛ فرح مع الفقر والألم.
الرابع: إنّ لهذه السعادة طابعاً كونياً هي الخليقة تَسْعد وتُسعِد المؤمن، ولكن الخليقة بعد أن أصلحها المسيح، ملك الكائنات، وأعادها إلى وجهتها الأصلية. بل أكثر من ذلك فالتطويبات هي "نعم" قالها الله بيسوع. فبينما توصّل العهد القديم إلى التوحيد بين الله والسعادة يأتي المسيح بدوره كَمَن يحقق الطموح إلى السعادة "ليكن فرحكم تاماً... فملكوت السماوات حاضر فيه وهو يجسد التطويبات إذ عاشها بالكمال وبدا وديعاً ومتواضع القلب" (متى11: 29).
3- التطويبات: تعليم خلاص ومثال حياة وبرنامج حياة مسيحية:
3-1. تعليم خلاص:
التطويبات هي قبل كل شيء إعلان الإنجيل، إعلان البشارة. فبسبب حضور المسيح "اقترب ملكوت السماوات" هذا هو الخبر الطيب والسعيد وزمن تحقيق النبؤات ومواعيد الله. ويكرر المعمدان ويسوع والتلاميذ العبارة ذاتها وفي ألفاظ مماثلة (متى3:2؛4: 17؛10: 7). ملكوت السماوات قريب، والخلاص قريب، بل هو "هنا" وموضوع مواعيد الله بدأ يتحقق وقد حدّدت التطويبات الشروط ومَن هم أولئك الذين ينعَمون بالموهبة الإلهية التي يحملها يسوع. الملكوت "هو هنا" بالنسبة للفقراء والحزانى والجياع وأطهار القلوب والساعين إلى السلام والمضطهدين. وهكذا جدّد يسوع على عتبة تعليمه طبيعة مسيحانيته: أيُّ مسيح هو؟! مسيح القوة والعظمة والغنى كما كانت تعتقد شريحة واسعة من العالم اليهودي؟ أم مسيح يعرف الضعف والألم ويتوجّه إلى الفئات المهمَّشة في المجتمع؟. هنا نسمع ما قاله أشعيا عن زمن الخلاص وعمل عبد الله المتألم وسط شعبه، بل وسط الشعوب: "وفي ذلك اليوم يسمع الصُمُّ أقوال الكتاب، وتُبصِر عيون العميان بعد الديْجور والظلام ويزداد البائسون سروراً بالرب ويبتهج المساكين من البشر بِقدّوس إسرائيل (اش29: 18-19). وروحُ السيد الرب عليّ لأنّ الرب مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء وأجبر منكسري القلوب وأنادي بإفراج عن المسبيين وبتخلية للمأسورين... وأُعزي جميع النائحين" (اش61: 1-3). ارتبط يسوع بهذه النبؤات الكبيرة، فأعلن أنها تمت الآن (راجع يسوع في مجمع الناصرة لو4: 16-21) "الآن تمت هذه الآية بمسمع منكم"...! ودلّ يسوع على نفسه أنه المسيح الذي يُدشِّن أزمنة الخلاص التي وُعد بها المساكين والحزانى. وسيعود يسوع أيضاً إلى أقوال أشعيا في جوابه إلى مُرسَليْ يوحنا المعمدان اللذين سألاه: "أأنت الآتي أم آخر ننتظر؟!" أجابهما يسوع بعد أن شفى أناساً كثيرين... "اذهبا فأخبرا يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العميان يبصرون، العرج يمشون مشياً سوياً، البُرْص يبرأون والصُمّ يسمعون، الموتى يقومون، الفقراء يُبشَّرون وطوبى لمن لا يشك في ..." (لو7: 18-23).
في المسيح قَدَّم الله خلاصه لكل الذين لا يملكون شيئاً فلا يستطيعون إلاّ أن يفتحوا أيديهم. الله هو المتسامي ولا يستطيع إلاّ أن يُعطي وهذا ما أظهره المسيح في طرق مختلفة. جاء إليه الأولاد فقال كما قال عن الفقراء بالروح: "ملكوت السماوات هو لهم". تَوسّلَ المرضى إلى حنانه فشفاهم. عاشر الخطأة ودلّهم على رحمة الله الآب. وتصف لنا التطويبات بكلمات بسيطة وأخّاذة سخاء حب الله ومجانيته.
3-2. مثال حياة:
التطويبات هي في القلب من كرازة يسوع كما يُعلِّمنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. وإعلانها يُعيد ويحقق ما قُطعَ من مواعيد للشعب المختار منذ ابراهيم ويكملها بتوجيهها لا إلى التمتع بالأرض فحسب بل إلى ملكوت السماوات. وهي موجّهة بنوع خاص إلى الفقراء المساكين والحزانى والجياع والمضطهدين وكل الذين موقفهم هو موقف فقراء أمام الله يتوجّهون إليه كمخلّصهم الوحيد.
والتطويبات ترسم وجه يسوع المسيح وتصف محبته وتُعبِّر عن دعوة المؤمنين المشتركين في آلامه ومجد قيامته. وتُنير الأفعال والمواقف التي تميز الحياة المسيحية. وهي تُعلِن من الآن ما سيحصل عليه التلاميذ من البركات والمكافأت.
التطويبات تلبي الرغبة الطبيعية في السعادة. وهذه الرغبة هي من أصل إلهي وضعها الله في قلب الإنسان، وهو القادر وحده على إشباعها.
التطويبات تكشف عن هدف الوجود الإنساني، عن الغاية القُصوى للأعمال الإنسانية وهي أن الله يدعونا إلى سعادته الخاصة. وهذه الدعوة موجّهة إلى كل واحد شخصياً، ولكن أيضاً إلى الكنيسة في مجموعها، الشعب الجديد المؤلف من الذين تقبلوا الوعد ويحيون به في الإيمان.
وكما أن المعجزات تُمنح للمرضى بالنظر إلى استعداد ايمانهم، كذلك يُعطى الملكوت للذين تجعلهم استعدادات قلبهم كالأطفال والصغار. (متى18: 1-4). واستعدادهم لعيش التطويبات.
فبفضل الإستعدادات الروحية والخُلُقية، يمثِّل هؤلاء الفقراء مثالاً يجب أن يُقتدي به كل الذين يريدون أن ينعموا برضى الله وخلاصه. فالتطويبات هي نداء يُسمعه يسوع إلى كل الذين يريدون أن يكونوا تلاميذه.
وهذا النداء يشدِّد على الاستعدادات الروحية. فالتطويبات لا تتكلم فقط عن الفقراء أو الجياع، بل عن الفقراء بالروح وعن الجياع إلى البِرّ والعيش حسب مشيئة الله بالإضافة إلى الوداعة والرحمة ونقاوة القلب وصُنع السلام.
وهكذا صرنا على المستوى الأخلاقي، صرنا أمام لائحة من الفضائل أمام برنامج كمال. لأن السعادة الموعودة تضعنا أمام خيارات أخلاقية حاسمة. وهكذا تتحول التطويبات إلى برنامج حياة مسيحية.
3-3. برنامج حياة مسيحية:
لقد ربط متى التطويبة الأخيرة بما يتبعها من الآيات 5: 11-16 أي بالحكم في الملح والنور. وقد أوجز القديس بطرس في رسالته الأولى تلك الآيات عندما كتب "سيروا سيرة حسنة بين الوثنين، حتى إذا افتَروا عليكم إنكم فاعلو شر شاهَدوا أعمالكم الصالحة فمجدوا الله يوم الافتقاد. (1بط2: 12).
تختلف الألفاظ في مقارنات بليغة: "أعمال صالحة" و"مجدوا الله". ووصية بطرس تنطبق بنوع خاص على وجهة نظر متى حين يضيف "كل كذب". يسيئ الناس إليكم، في حين أنكم تقومون بالأعمال الصالحة. ومن هنا تنبع الوصية التالية: لكم دور لا بد من القيام به في العالم ونحو العالم، وهذا الدور عليكم أن تقوموا به بفضل أعمالكم الصالحة. فدليلُ الناس على إيمانكم المسيحي هو حسن سلوككم. "ليس من يقول لي يارب يارب..." (متى7: 21) وبدون تلك الأعمال الصالحة تكونون كالملح الذي فسد وفقد طعمه ويمكن القول بصيغة ايجابية؛ بفضل أعمالكم الصالحة تكونون كالسراج الموضوع على المنارة فيسطع النور الذي وهبكم الله إيّاه أمام أعين الناس (راجع متى5: 13-16).
بالإضافة إلى دعوة التطويبات إلى تنقية قلوبنا من الغرائز الشريرة، والتماس محبة الله وبِرّه فوق كل شيء. وهي تُعلِّمنا أنّ السعادة الحقيقية ليست في الغنى أو الرفاهية أو المجد البشري أو السلطة... وليست في أية خليقة، وإنما هي في الله وحده ينبوع كل خير وكل حب وكل سعادة (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1716-1729).
التطويبات تكشف عن نظام سعادة وفرح ونعمة وجمال وسلام. ويسوع يُشيد بفرح الفقراء الذين لهم منذ الآن الملكوت.
"إنّ الكلمة يدعو "فقراً بالروح" تواضعَ الروح البشري الطوعي وتجرّدَه. ويعطينا الرسول كمثال فقر الله عندما يقول: "هو الغني قد افتقر لأجلنا" (2كو8: 9) (القديس غريغوريوس النيصي: بالتطويبات1).
وينوح الرب على الأغنياء الذين يجدون تعزيتهم في كَثرة الأموال (لو6: 24-26) "المتكبر يسعى إلى السلطة البشرية، يقول اغسطينوس، بينما الفقير يسعى إلى ملكوت السماوات".
والاستسلام إلى عناية الآب السماوي يُحرِّر من الاهتمام القلق بالغد. "والوعد بمعاينة الله يفوق كل سعادة... ورؤية الله في الكتاب المقدس هي الحصول عليه، مَن رأى الله فقد حصل على كل الخيرات التي نستطيع أن نتصورها" (القديس غريغوريوس النيصي: التطويبات6).
من هنا هُتاف يوحنا الصليبي: "لي السماوات، والأرض لي، والكون كله لي، لأني بالله أمتلك كل شيء".
ولكن التطويبات ليست برنامج حياة إلا بما تعكسه من صورة يسوع، كما نجدها في الإنجيل. لقد وَثَّق متى الرباط الذي كان يجمع منذ البدء بين التطويبات والذي فاه بها. متى يفهم التطويبات كمطلب إلهي من المسيحيين. لكنه يفهمها في الوقت نفسه ككشف يقوم به يسوع عن نفسه وعن استعداداته الباطنية.
فالقراءة الجديدة التي يقوم بها متى ليست مجرد قراءة معلم أخلاقي، بل قرأة مؤمن يرى في يسوع مثال كل حياة مسيحية. وجميع متطلبات الإنجيل تعود في آخر الأمر إلى هذا الأساس: مطابقة مشاعرنا على مشاعر المسيح يسوع. الذي هو في الحقيقة مثال التطويبات وقاعدة الناموس الجديد: "تعلموا مني... أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا". "وقد صار الكلمة جسداً لكي يكون مثالاً لنا في القداسة. وطريق المسيح هذه تختصرها التطويبات التي هي السبيل الوحيد إلى السعادة الأبدية التي يصبو إليها قلب الإنسان (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1697). "ليكون بكم فرحي، فيكون فرحكم تاماً" (لو15: 11).
4- من تعاليم آباء الكنيسة:
"إن التعليم الذي نستخلصه من التطويبات يشبه إلى حدٍ ما مااستشفّه يعقوب في الحُلُم إذ رأى سُلّماً منتصباً على الأرض ورأسه يلامس السماء وملائكة الله صاعدون نازلون عليه" (تك25: 10 ومايتبع). هذا السُلّم يسير صُعْداً إلى الأعالي بجميع الصاعدين عليه، وأعتقد بأن حياة الفضيلة توضّحت برؤيا السُلّم المنتصب لكي يتعلّم يعقوب ويُعلّم نسله بأن الحياة مع الله ما هي إلاّ توجيه أبصارنا نحو الأعالي مبتغين الحقائق السماوية، وأن لا نتوقف أبداً ولو أمام عمل صالح أنجزناه، لا بل نَعُدُّ خسارة جسيمة عدم السعي إلى الأعلى في سُلّم الفضائل. وهكذا فإن سمو التطويبات هو سلم الحياة المسيحية الذي يرقى بنا نحو الله "الطوباوي" الحق والذي هو مصدر التطويبات وفوقها جميعاً.
وكما نقترب من الحكيم بواسطة الحكمة، ومن الطاهر بواسطة الطهارة والنقاوة هكذا نقترب ونكون أشباه "الطوباوي" بواسطة عيش التطويبات.
"الطوبي" حصراً تخصّ الله وحده، لهذا رأى يعقوب الله على رأس السُلَّم. وحياة التطويبات ما هي إلاّ الإتحاد بالله بالرب يسوع وبما تفوّه به.
وأظن بأنه تعالى عندما سبق الوعد "بالطوبي" ارتقى بالسامعين العاملين بمقتضى التطويبات إلى درجة الألوهية. فقد قال "طوبى للرحماء فإنهم يرحمون" ونحن نعلم من الكتاب المقدس بأن "الرحيم" هو الله نفسه. وإذا كان لقب "الرحيم" يخص الله وحده، فإن الكلمة الإلهي يدعوك لتصير "إلهاً" وكأنك صُورت على صورة ومثال "الله الرحيم" ... وبالتالي فإذا كان أحدهم ?مع كونه إنساناً- رحيماً "فطوبى له" لأنه أصبح شريكاً في الاسم الخاص به تعالى: "الرحيم" "الرب رؤوف بار، وإلهنا رحمان" (فر116: 5).
"الرب الرب إله رحيم رؤوف طويل الأناة وكثير الرحمة والوفاء" (خر34: 6). فكيف لا يكون سعيداً وطوباوياً من استحق اسم الله هذا بحياته وأعماله ؟.
"لا نستطيع أن نرتقي درجة من السُلّم بدون الارتقاء إلى الدرجة التي تليها... وهكذا التطويبات" (غريغوريوس النيصي: التطويبات5).
5- من تعاليم قداسة البابا:
"فاعتبروا أيها الإخوة دعوتكم"(1كو1: 16) . في عظته على جبل التطويبات يوم 24 آذار 2000 وأمام أكثر من مائة ألف مؤمن غالبيتهم الساحقة من الشباب القادم من جميع أرجاء الأرض المقدسة ومن كافة أنحاء العالم بمناسبة يوبيل سنة الألفين، وعلى نفس الجبل المقدس الذي شهد "عظة الجبل" ربط قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بين هذا الجبل وجبل سيناء وبين "الوصايا العشر" وبين "التطويبات": "من سمع يسوع وهو يتفوّه بالتطويبات على هذا الجبل كانت منطبعة في ذاكرته وحياته صورة جبل آخر هو جبل سيناء... حيث كلم الرب موسى وأعطاه الشريعة المكتوبة المنقوشة "باصبع الله" (خر31: 18). على لوحيْ حجر وهذان الجبلان يرسمان خريطة حياتنا المسيحية وخلاصة واجباتنا ومسؤولياتنا نحو الله والقريب. فالوصايا والتطويبات هما الطريق السلطانية لبلوغ ملء قامة المسيح ولبلوغ النضج والحرية في حياتنا الروحية.
"طوبى لكم" يقول: "طوبى لفقراء الروح. طوبى للودعاء وللرحماء وللحزانى. طوبى للجياع والعطاش إلى البر، طوبى لأطهار القلوب وللساعين إلى السلام وطوبى للمضطهدين ! "طوبى لكم" ومن دواعي العَجَب والدَّهَش أن يُمجِّد المسيحُ مَن يعتبره العالم ضعفاً ورذالة... عجيبة هي كلمات يسوع هذه, ولكن هذه الكلمات، التي تفوّه بها هو "الوديع والمتواضع القلب" تُشكِّل تحدياً كبيراً يتطلب اهتداءً عميقاً ومستمراً... وأنتم، خاصة الشباب بينكم، أنتم تعلمون الحاجة للإهتداء، لأنكم عرضة لتجربة كبرى. وهي سماع صوت آخر، في داخلكم وفي محيطكم يناقض تماماً ما نسمعه في التطويبات. وهذا الصوت يقول: "طوبى للأقوياء المتجبرين، طوبى للأغنياء وبأية وسيلة كانت، طوبى لصانعي الحروب عوضاً عن السلام، المجرَّدين من الرحمة والشفقة ومُضطهِدي كل من يعترض طريقهم... ".
فلا تخافوا أن تختاروا صوت المسيح وتتبعوه... لا تخافوا أن تضعوا ثقتكم وأملكم فيه... فالمسيح يسوع لم يتفوه بالتطويبات وحسب، ولكنه هو نفسه عاش الطوبيات، لا بل هو نفسه "التطويبات". وعندما تنظرون إلى يسوع تُدرِكون حقاً معنى التطويبات... ولهذا حقَّ له القول: "تعال واتبعني" ولم يقل "افعلوا ما أقوله لكم" ولكن "تعال واتبعني"... والآن ونحن على عتبة الألف الثالث عليكم يقع عبء البشارة: فاذهبوا في العالم كله واعلنوا بشرى "الوصايا العشر" وبشرى "التطويبات"... وعليكم أن تكونوا رسل "الملكوت" اذهبوا ولا تخافوا!. وفي كلمته التي وجهها إلى شباب العالم على ضفاف بحيرة اونتاريو في كندا يوم 25/7/2003 قال قداسته: "إن الكنيسة تنظر إليكم بثقة وتنتظر منكم أن تصيروا شعب "التطويبات"!.
الخاتمة
التطويبات تحمل رسالة لاهوتية ومسيحانية وتعليماً يدعو إلى تحويل طُرُقِنا في التفكير والعمل، فهي قبل كل شيء مناداة بالسعادة. ويجب أن لا ننسى ذلك ؛ هي مناداة بالسعادة، لا مجرد وعد بالسعادة. التطويبات تعتبر الذين تتكلم عليهم سعداء. فالفقراء، أو فقراء الروح، هم سعداء، وهم سعداء فعلاً حين يقول لهم يسوع ذلك - والله لا يتكلم عبثاً !- وعليهم أن يعوا هذا الأمر. إذ ليست التطويبات أُمنية، بل عبارة تهنئة على سعادة قد تحققت.
ومن الواضح أيضاً أن السعادة المُنادى بها في الجزء الأول من التطويبة لا يمكن فهمها بدون الوعد المذكور في الجزء الثاني، لأن وضع الفقراء الحاضر (أو فقراء الروح) في حد ذاته لا سبيل لاعتباره سعادة، مادام لا يظهر على هذا الشكل إلا في الصلة التي تربطه بالمستقبل. إن فقر الفقراء أو تواضع فقراء الروح هو عُربون سعادة المستقبل. ولذلك يُعد هذا الفقر سعادة. بما أن ديانة التطويبات تستند إلى وعد فهي ديانة رجاء. فالحاضر يستمد معناه من المستقبل الذي يشكل مصدر وعده.
وما في الوقت الحاضر من قيود ومتطلبات يشكل بالضبط تلك الحقائق التي ينبثق منها الرجاء السعيد ويطور حياة المؤمن بكاملها. فالرجاء لا يُخِّيب صاحبه.
التطويبات هي إعلان خلاص، ونداء قداسة، تتطلب التجرد والمحبة والإهتداء، حتى استعدادات القلب الحميمة. تريد نفوساً متجردة، بسيطة مشعّة. كما تطلب عطاء الذات بدون تحفُّظ، لأن الوعد لا يقاس بأفراح الأرض أوأحزانها، ولأن الله يريد شخصياً أن يعطي ذاته لنا.
"التطويبات" تتطلب بنوع خاص الإيمان والثقة المطلقة بكلمة الله. ويبقى السؤال:
هل نستطيع أن نعيش "التطويبات" في عالم اليوم؟!
الجواب هو: نعم الإيمان!.
وكما قال قداسة البابا في عظته على جبل التطويبات: "يبدو وكأن عيش التطويبات في عالم اليوم مغامرة تفوق طاقاتكم... ولكن المسيح لا يقف متفرجاً، ولا يدعكم تواجهون وحيدين هذا التحدي! هو دائماً معكم ليحوّل ضعفكم إلى قوة آمنوا ولتكن لكم الثقة فيه، هو القائل: "حسبك نعمتي، فإن القدرة تبلغ الكمال في الضعف" (2كو12: 9). "وطوبى لمن لا يشك في" (لو7: 23).
*الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم.
*الويل لكم أيها الشِباع الآن فسوف تجوعون.
* الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون.
* الويل لكم إذا مدحكم جميع الناس فهكذا فعل أباؤهم بالأنبياء الكذابين.
1-1. طوبى:
طوبى كلمة سريانية تعني السعادة والهناء. ومنها اشتُقَ لقب "طوباوي" الذي يطلقُ على كل من عاش سيرة صالحة، وذلك قبل إعلان قداسته.
تشير كلمة سماوات في الكتاب المقدس إلى الساكن في العُلى، أي الله. ملكوت السماوات يعني ملكوت الله. فما هو هذا الملكوت الموعود والذي نذكره في صلاة أبانا ونقول : "ليأتِ ملكوتك"؟ "ملكوت" لا يعني مكاناً أو أرضاً يقوم عليها الملكوت.
تتناول وجوه الإختلاف هذه أولاً تلك الخطبة التي تشكل التطويبات مُستهلَّها. فمتى يستهلُّ خُطبة طويلة من ثلاثة فصول (متى5-7)، نسميها عظة الجبل. ولوقا يستهل خُطبة "السهل" في مكان منبسط (لو6: 17)، وهي أقصر بكثير (لو6: 20-47). وهذه الخُطبة الأخيرة نكاد نجدها كلها في متى. ولكن وجهتي نظرهما تختلفان بعض الإختلاف. تكاد خُطبة لوقا تُركِّز على محبة القريب دون سواها. أما متى فإنه يهتم بالطريقة التي تشكل بها متطلبات الإنجيل تجاوزاً بالنسبة إلى الشريعة اليهودية.
2-3. "التطويبات" الإنجيلية ترتبط بفن أدبي قديم كان قد دخل دخولاً عميقاً إلى العالم اليهودي في زمن يسوع، فامتزجت بمواضيع توراتية: "طوبى لمن تزوج امرأة عاقلة. طوبى لمن وجد الحكمة. ولكن لا أحد يتفوق على "من يخاف الرب" (سي25: 7-11)، وسعادة صاحب المزامير هي ثقة شخصية بالله وإنْ سَخِرَ منها المُترفِّعون. هي تعلق بوصايا الله وحفظها. وبفضل السياق الذي وردت فيه، نستطيعُ أن نكتشف السِمات الكبرى للتطويبات الإنجيلية وهنا نلاحظ توجّهات أساسية أربعة:
3-1. تعليم خلاص:
التطويبات هي قبل كل شيء إعلان الإنجيل، إعلان البشارة. فبسبب حضور المسيح "اقترب ملكوت السماوات" هذا هو الخبر الطيب والسعيد وزمن تحقيق النبؤات ومواعيد الله. ويكرر المعمدان ويسوع والتلاميذ العبارة ذاتها وفي ألفاظ مماثلة (متى3:2؛4: 17؛10: 7). ملكوت السماوات قريب، والخلاص قريب، بل هو "هنا" وموضوع مواعيد الله بدأ يتحقق وقد حدّدت التطويبات الشروط ومَن هم أولئك الذين ينعَمون بالموهبة الإلهية التي يحملها يسوع. الملكوت "هو هنا" بالنسبة للفقراء والحزانى والجياع وأطهار القلوب والساعين إلى السلام والمضطهدين. وهكذا جدّد يسوع على عتبة تعليمه طبيعة مسيحانيته: أيُّ مسيح هو؟! مسيح القوة والعظمة والغنى كما كانت تعتقد شريحة واسعة من العالم اليهودي؟ أم مسيح يعرف الضعف والألم ويتوجّه إلى الفئات المهمَّشة في المجتمع؟. هنا نسمع ما قاله أشعيا عن زمن الخلاص وعمل عبد الله المتألم وسط شعبه، بل وسط الشعوب: "وفي ذلك اليوم يسمع الصُمُّ أقوال الكتاب، وتُبصِر عيون العميان بعد الديْجور والظلام ويزداد البائسون سروراً بالرب ويبتهج المساكين من البشر بِقدّوس إسرائيل (اش29: 18-19). وروحُ السيد الرب عليّ لأنّ الرب مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء وأجبر منكسري القلوب وأنادي بإفراج عن المسبيين وبتخلية للمأسورين... وأُعزي جميع النائحين" (اش61: 1-3). ارتبط يسوع بهذه النبؤات الكبيرة، فأعلن أنها تمت الآن (راجع يسوع في مجمع الناصرة لو4: 16-21) "الآن تمت هذه الآية بمسمع منكم"...! ودلّ يسوع على نفسه أنه المسيح الذي يُدشِّن أزمنة الخلاص التي وُعد بها المساكين والحزانى. وسيعود يسوع أيضاً إلى أقوال أشعيا في جوابه إلى مُرسَليْ يوحنا المعمدان اللذين سألاه: "أأنت الآتي أم آخر ننتظر؟!" أجابهما يسوع بعد أن شفى أناساً كثيرين... "اذهبا فأخبرا يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العميان يبصرون، العرج يمشون مشياً سوياً، البُرْص يبرأون والصُمّ يسمعون، الموتى يقومون، الفقراء يُبشَّرون وطوبى لمن لا يشك في ..." (لو7: 18-23).
التطويبات هي في القلب من كرازة يسوع كما يُعلِّمنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. وإعلانها يُعيد ويحقق ما قُطعَ من مواعيد للشعب المختار منذ ابراهيم ويكملها بتوجيهها لا إلى التمتع بالأرض فحسب بل إلى ملكوت السماوات. وهي موجّهة بنوع خاص إلى الفقراء المساكين والحزانى والجياع والمضطهدين وكل الذين موقفهم هو موقف فقراء أمام الله يتوجّهون إليه كمخلّصهم الوحيد.
لقد ربط متى التطويبة الأخيرة بما يتبعها من الآيات 5: 11-16 أي بالحكم في الملح والنور. وقد أوجز القديس بطرس في رسالته الأولى تلك الآيات عندما كتب "سيروا سيرة حسنة بين الوثنين، حتى إذا افتَروا عليكم إنكم فاعلو شر شاهَدوا أعمالكم الصالحة فمجدوا الله يوم الافتقاد. (1بط2: 12).
التطويبات تحمل رسالة لاهوتية ومسيحانية وتعليماً يدعو إلى تحويل طُرُقِنا في التفكير والعمل، فهي قبل كل شيء مناداة بالسعادة. ويجب أن لا ننسى ذلك ؛ هي مناداة بالسعادة، لا مجرد وعد بالسعادة. التطويبات تعتبر الذين تتكلم عليهم سعداء. فالفقراء، أو فقراء الروح، هم سعداء، وهم سعداء فعلاً حين يقول لهم يسوع ذلك - والله لا يتكلم عبثاً !- وعليهم أن يعوا هذا الأمر. إذ ليست التطويبات أُمنية، بل عبارة تهنئة على سعادة قد تحققت.