فمشيئة أبي هي أن كل من رأى الابن و آمن به كانت له الحياة الأبدية و أنا أقيمه في اليوم الأخير (يو 6 /40)
هِبَةُ الفَهم و المعرفة - الأب پيير مصري
| ||||||||||||||||||||||
تمهيد | ||||||||||||||||||||||
في كتاب أعمال الرسل (8/26-40) رواية شائقة عن لقاء الرسول فيلبُّس بخازن مملكة الحبشة وهو راجع من أورشليم بعدَما زارها حاجًّا.. فبادر إليه فيلبُّس فسمعه يقرأ النبي أشعيا، فقال له: "أتفهم ما تقرأ؟" قال: "أنَّى لي ذلك إن لم يُرشدني أحد؟" ثمَّ رجا من فليبُّس أن يصعد ويجلس معه. وكانت الفقرة التي يقرأها.. "كنعجة سيق إلى الذبح وحمل صامت.. فقال لفيلبُّس: "أسألك أن تخبرني من يعني النبي بهذا الكلام: أنفسه يعني أم شخصاً آخر؟" فشرع فيلبُّس من هذه الفقرة يبشِّره بيسوع. تلفتُ انتباهنا بشكل خاص في هذا المقطع العلاقة الوثيقة التي تربط بين فعلَي الفهم والإيمان، إذ يبدو الفهم والتفسير وإدراك المعنى، مدخلاً إلى معرفة المسيح والإيمان به. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة طرح الأسئلة التي غالباً ما تتوارد إلى الذهن في هذا المجال: هل الإيمان بحاجة إلى الفهم؟ أليس هو بالتعريف قبول لما لا يستطيع العقل فهمه؟ وتسليم بما يعجز الفهم عن إدراكه؟ في الواقع، تتزايد في زماننا الأصوات التي تؤكِّد استغناء المؤمن عن الحاجة إلى الفهم.. بعضها من باب الدعوة إلى البساطة وعدم تعقيد أمور الإيمان "وفلسفتها"، وبعضها من باب الاتكاء على أولويَّة الآيات والعجائب في دعم الإيمان وإنعاشه وهي بطبيعتها عصيَّة على الفهم، والبعض الأخير من باب الاكتفاء بحسن الأخلاق والسلوك بكونه التعبير الأمثل عن الإيمان دونما حاجة إلى تفكير أو نقاش نظري. ويمكننا أن نرجع ذلك إلى عوامل متعدِّدة: منها انتشار "الأميَّة المقنَّعة" وما يرافقها من تدنِّ للوعي والمستوى الثقافي بين المؤمنين. ثمَّ خيبة الأمل من جهود التجديد في التعليم المسيحي والحنين إلى الإيمان التقليدي الساذج البسيط (إيمان الجدود والجدَّات..). وأيضاً صعوبة تقبُّل التفاعُل الحاصل بين العلوم الإنسانيَّة والدينيَّة لما يحمله من تغيير جذري في النظر إلى الحقائق الإيمانيَّة. وما أشبه اليوم بالبارحة؟! ففي مطلع الألفيَّة الثانية كتب القس الفيلسوف والعالم أبو الفرج عبد الله بن الطيِّب البغدادي (?1043) في مقدِّمة تفسيره للأناجيل الأربعة مقالاً مطوَّلاً يُبيِّن فيه أهميَّة العلم لفهم الكتب المقدَّسة (والحياة المسيحيَّة بشكل عام) يقول: لمَّا تأمَّلتُ أمرَ زماننا هذا وتصفَّحتُ أحواله، وجدتُ أكثر أهله قد اطرَّحوا الفكر في العلوم الإلهيَّة، والبحث عن حقائق السُنن المسيحيَّة. وصار ذلك عندهم كالفضل الذي لا يُحتاج إليه ولا يُلتفَتُ إلى شيء منه. وقاربت نبوة النبي أن تتمَّ وهي القائلة: «إنَّ شعبي خرب لعدم المعرفة» (هوشع 4/6). وما من أحد يؤثر أن يفتحَ كتاباً، أو يقرأ تفسيراً. ولا تشرئبُّ نفسه إلى السؤال عن مسألة. ولا أحد يُعنِّف الناس على ذلك، ولا يحثُّهم على النظر فيه. لكن كل واحد ماض مع هواه، متَّبع لشهوته، يدَّعي أنَّ العلم هذيان، ولا يُقتَرب به إلى الله، بل يُكتسب به البعد منه، كما قال بعض المعلِّمين. وزال عن النفوس قول مخلِّص الكل: «ابحثوا عن الكتب المبشَّر لكم فيها بحياة الأبد، وهي الشاهدة علي» (يوحنا 5/39)، وقوله: «كلُّ من يعمل ويعلِّم يُدعى عظيماً في ملكوت السماء» (متى 5/19)، حتى صار العلم معيرةً واقتناؤه منقصةً. ولعلَّ الوقت الذي أومأ إليه سيُّدنا بقوله: «أترى ابن الإنسان يأتي فيجد إيماناً على الأرض؟» (لوقا 18/8)، أي عِلماً به واعتقاداً صحيحاً فيه، قد بلغ الآن! وبالجملة، فالناس قد صاروا فرقاً، جميعها تطعن في أهل العلم وتسبُّهم.» 1 ثمَّ يذكر الاعتراضات التي يوجهها أهل زمانه إلى أصحاب العلم والمعرفة نذكر منها: ماذا ينفع العلم في دين النصرانيَّة؟ وأيَّ شيءٍ يُجدي ويُغني، والأئمَّة الأول كانوا صيادين ومَكَسة (عشارين) لا خبرة لهم ولا علم، ذوي جهالة؟ ونهاية أمرنا أن نتشبَّه بهم. وسيُّدنا قال للتلاميذ: «إن لم تعودوا فتصيروا مثل الصبيان، لن تدخلوا ملكوت السماء» (متى 18/3) فمع هذا، ما فائدة علمكم أيها العلماء؟ إنَّ العلم في مذهب النصرانيَّة لا يُنتفَع به. لأنَّ المذهب لم يقم بالعلم لكن بالمُعجز، والمعجز أشرف من العلم، فسعيكم أيها العلماء، في التدقيق والتفسير والتأويل، قد أسقطه الله عنكم وأراحكم منه ومن الاهتمام به. إنَّ ادِّعاءكم تكلُّف العلم به وتصعيبكم هذا فضل لا يُحتاج إليه. لأنه إذا قُبل بالمعجز، وهو أوامر ظاهرة، كالصوم والصلاة والصدقة، يُعمَل بها ويُستغنى عن تطويلكم بالعلم ويصير ما فعلتموه من الفضل. | ||||||||||||||||||||||
أؤمن لأفهم.. وأفهم لأؤمن | ||||||||||||||||||||||
وهذا الدفاع عن مكانة العلم والمعرفة ينسجم مع الموقف التقليدي للكنيسة الذي يعبِّر عنه القديس أوغسطينُس منذ القرن الرابع بمقولته الشهيرة: "أؤمن لأفهم.. وأفهم لأؤمن"، والمقصود أن العلاقة بين الإيمان والفهم لا يمكنها أن تتناسب عكسياً، فالإيمان يستدعي الفهم مثلما الفهم يُساند الإيمان ويدعمه. يمكن أن نذكر أيضاً ما كتبه في مطلع القرن التاسع باللغة العربية ثاوذورُس أبو قرَّة أسقف حرَّان في مطلع أحد مقالاته، واصفاً الأنماط الثلاثة من العلاقة بين الإيمان والمعرفة، قبل أن يُدافع عن ضرورة اعتماد الموقف الثالث: إنَّ الإيمان هو اليقين بما قد غاب عن المعرفة كما أحاطت به المعرفة.. فالناس كافة في الإيمان بما جاء من عند الله ثلاثة: منهم من يعطِّل الإيمان بتةً متعظماً عن أن يكون عقله تبعاً لخبر لم تحط به معرفته. ومنهم من قد بذل عقله لقبول خبر يأتيه من الله لا تحيط به معرفته، غير أنه يهمل إيمانه ولا يوكل به عقله أن يحتاط له نظراً حتى يجعله في مكانه. ومنهم من يُخضع ذهنه للتصديق بخبر يُسند إلى الله.. ولا يُخلّي إيمانه أن يعود كالسفينة التي لا ربَّان فيها ولا نوتيَّة، بل يدبِّره عقله حتى يضعه في مكانه..2 والكلام هنا لا يقتصر على العقائد والشؤون الإيمانيَّة العويصة.. فالفهم يشمل جوانب الحياة الإيمانيَّة كافةً، بدءاً بالصلوات التي نتلوها، ثمَّ النصوص التي نقرأها (الكتاب المقدَّس بشكل خاص وباقي التراث الكنسي)، والرموز التي نلجأ إلى التعبير بواسطتها، وصولاً إلى الواجبات التقويَّة والأخلاقيَّة التي نمارسها.. إنَّ الفهم هو صلة الوصل بين ثنائيَّة الإيمان والعمل.. فمن دون الفهم يبقى الإيمان نظرياً بعيداً عن الواقع وغير قادر على التأثير فيه، ولا يمكن أن يتحوَّل إلى عمل مخلص ومؤثِّر.. لأنَّ العمل إن لم يكن مستنداً إلى قناعة شخصيَّة يبقى محدود التأثير، لا بل قد يؤدِّي إلى مفعول معاكس أحياناً.. وما يُنشئ القناعة هو أولاً الفهم. وبالعودة إلى زماننا الحاضر، نجدُ في رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الثانية، الصادرة عام 1992، هذا المقطع الهام: إن انتقال الإيمان من مجرد واقع وراثي إلى قبول شخصي رهن، نوعًا ما، بالتعمُّق في الإيمان وتثقيفه، لأن جهل الإيمان أو السطحية فيه قد يؤدي إلى فقدانه، خاصة في إطار التحولات العميقة في أنماط الحياة في المجتمع الحالي، حتى في شرقنا، حيث تغيرت الأجواء التقليدية التي أسهمت في الماضي في المحافظة على الإيمان ودعمه. إن جهل الإيمان هو جهل المؤمن لنفسه. وعندما يجهل المؤمن نفسه يفقد هويته ودعوته ورسالته، وتفقد الجماعة المؤمنة أصالتها لتتحول إلى مجرد جسم اجتماعي انسلخ عن التفاعل الحي مع أصوله الإلهية.3 سنتناول بالتفصيل في ما يلي ثلاثة من أهم مظاهر الجهل والسطحيَّة في الإيمان، والتي تؤدِّي بحسب تحليل رسالة البطاركة إلى أحد نقيضين: إمَّا فقدان الإيمان أو الوقوع في التعصُّب الأعمى. وهذه المظاهر التي سنذكرها على التوالي هي: الحرفيَّة أو تجاهل البعد الرمزي للإيمان، والمباشريَّة أو تجاهل البعد التاريخي للإيمان، والتكراريَّة أو تجاهل البعد الإبداعي للإيمان.4 | ||||||||||||||||||||||
1- الحرفيَّة أو تجاهُل البعد الرمزي | ||||||||||||||||||||||
إنَّ أكبر خطر يُهدِّد الإيمان، يُهدِّده في أساسه وكيانه العميق، هو خطر الوقوع في الحرفيَّة. والمقصود ذلك الموقف أو الطريقة في (لا) فهم الواقع تكتفي بالظاهر والمباشر، وتتعامل بالتالي مع النصوص والعقائد والصلوات والطقوس والفرائض بطريقة تكاد تكون حسابيَّة، تكراريَّة، تبسيطيَّة، سطحيَّة، مباشرة، وآليَّة.. الحرفيَّة تُخطئ في تمييز طبيعة العالم الديني الذي تتعامل معه، وهي طبيعة رمزيَّة مجازيَّة باطنيَّة وروحيَّة.. فبما أنَّ الدين هو علاقة مع المطلق، أو الله، بصفته السر الأعظم الممتنع الوصف والإدراك، فهذا يعطيه تلقائياً بنية رمزيَّة أساسيَّة. إنَّ فهم الواقع البشريِّ أصلاً، في بعده العلائقي على وجه الخصوص، لا يتمُّ إلاَّ بالتعامل مع بنيته الرمزيَّة، حتى صحَّ القول بأنَّ الإنسان "كائن رمزي"، ينتج الرموز ويتبادلها ويُعبِّر بواسطتها عن فهمه لذاته وللعالم (اللغة، المال، الأحلام، الفنون، الأعياد، الطقوس..). والرمز بالتعريف أمرٌ يستدعي التفسير، ويفترض جهداً تفسيرياً يسمح بالبلوغ على المعنى أو المعاني التي يمكن أن يدلَّ عليها.. الرموز بطبيعتها، على عكس الإشارات، متعدِّدة الدلالات، وهي تحيل إلى عالم معاني متعدِّد المستويات، يشترك في خلقه المفسِّر بالذات. المجال الديني هو مجال رمزي بامتياز، واللغة الدينيَّة لا تستطيع الاستغناء بحال من الأحوال عن طابعها المجازي والرمزي، إلاَّ إذا تنازلت عن البعد المطلق لموضوعها الأساسي: العلاقة بين البشري والإلهي. يتجاهل الحرفيُّون أو ينكرون الحاجة إلى فعل التفسير تجاه النصوص أو العناصر الدينيَّة، وهو الفعل الذي يمكن أن يؤدِّي إلى تعدُّديَّة في المعاني والفهم، فيتمسَّكون بلا هوادة بأحاديَّة المعنى وتلقائيَّة البلوغ إليه. لا يستوعب الحرفيُّون فكرة أن نصاً أو عنصراً دينياً لا يمكن أن يتخذ معناه إلاَّ على ضوء مجموع النصوص والعناصر الأخرى، وبذلك يمكن أن يحتمل عدداً من القراءات الممكنة. فهذا يعني القبول بالاعتراف أنه لا يمكننا أن نؤمن دون أن نفسِّر، أي أن نتجاوز السذاجة الأوليَّة التي لم تعرف اختبار النقد، ونبلغ إلى فهم متجدِّد للإيمان. | ||||||||||||||||||||||
2- المباشريَّة أو تجاهُل البعد التاريخي | ||||||||||||||||||||||
لا ينفصل الإيمان، في مختلف جوانبه، عن إطاره التاريخي. ولذلك يتطلَّب فهم نصوصه وعقائده وتعبيراته المتنوِّعة، تفسيراً يضطلعُ بمهمَّة إعادة ربط هذه العناصر مع ظروف تكوُّنها التاريخيَّة بجوانبها اللغويَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة. يقول الدستور العقائدي "في الوحي الإلهي" الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965: .. الحقيقة تُعرَضُ وتُفسَّر بصور مختلفة، في نصوص تاريخيَّة متنوعة، أو نصوص نبويَّة أو شعريَّة أو في غيرها من أنواع التعبير. فمن الواجب إذاً على الشارح أن يُفتِّش عن المعنى الذي كان في نيَّة الكاتب المقدَّس أن يُعبِّر عنه، وعبَّر عنه حقاً في الظروف المعيَّنة التي عاش فيها، وفقاً لأوضاع عصره وثقافته، بواسطة الفنون الأدبيَّة المتداولة إذ ذاك.5 ولا شكَّ في أنَّ تجاهل هذا المبدأ ومتطلباته، يؤدِّي إلى الوقوع في فخ العقليَّة "الأصوليَّة" والتي تقوم بالتحديد على وهم إمكانيَّة الفهم المباشر دون حاجة إلى تجشُّم أعباء الجهد التفسيري والاستعانة بالعلوم المساعدة التي لا يستغني عنها. تقول وثيقة اللجنة الكتابيَّة الحبريَّة الصادرة عام 1993 بعنوان: تفسير الكتاب المقدَّس في الكنيسة: مشكلة القراءة الأصوليَّة الأساسيَّة هي أنها ترفض أن تأخذ بعين الاعتبار الطابع التاريخي للوحي الكتابي، فتبدو بذلك عاجزة عن القبول بشكل كامل بحقيقة التجسُّد.. إنها ترفض الإقرار بأن كلام الله الموحى به قد تمَّ التعبير عنه بلغة بشريَّة، وأنَّه دوِّن بحسب الإلهام الإلهي ولكن من قِبَل مؤلِّفين بشريين بما لديهم من إمكانات وموارد محدودة. ولهذا السبب تميل إلى اعتبار النصوص الكتابيَّة وكأنها قد أُمليت كلمة كلمة من قبل الروح القدس، ولا تتمكَّن من قبول أن كلام الله قد جرت صياغته في لغة وعبارات زمانه وثقافته، فلا تلقي بالاً إلى الأنواع الأدبيَّة والطرق الإنسانيَّة في التفكير الحاضرة في النصوص الكتابيَّة، التي لم تتكوَّن في معظمها إلاَّ على امتداد فترات طويلة من الزمن وتحمل بالتالي سمات الوقائع التاريخيَّة المتنوِّعة التي أحاطت بها... وفي ما يخصُّ الأناجيل، لا تُعير الأصوليَّة اهتماماً لعمليَّة النمو التي جرت في التقليد الإنجيلي، بل تخلط بسذاجة بين المرحلة النهائيَّة لهذا التقليد (ما دوَّنه الإنجيليون) والمرحلة الأوليَّة له (ما قاله وعمله يسوع الناصري). وبهذا تعتِّم أيضاً على المرحلة الوسيطة، أي الطريقة التي فهمت بها الجماعة المسيحيَّة الأولى حدث ورسالة يسوع الناصري حيث نجد شهادة الجماعة الرسوليَّة الأصليَّة عن إيمانها المسيحي في تعبيره المباشر.. يكمن خطر النظرة الأصوليَّة في كونها تجتذب الأشخاص الذين يبحثون في الإنجيل عن حلول مباشرة لمشاكل حياتهم، فتقدِّم لهم إجابات تقويَّة واضحة، لكنَّها وهميَّة، وذلك بدلاً من أن تقول لهم أن الكتاب المقدَّس لا يتضمَّن بالضرورة إجابة مباشرة على كلِّ المسائل التي يطرحونها. وبهذا تؤدِّي الأصوليَّة، دون أن تقول، إلى نوع من "الانتحار الفكري"، فترسِّخ في الحياة تأكيدات يقينيَّة زائفة، لكونها تدمج بدون وعي منها بين الحدود البشريَّة للرسالة الكتابيَّة والمحتوى الإلهي لهذه الرسالة.6 تحمل الديانات التوحيديَّة الكتابيَّة توتُّراً لا مناص منه بين الكتاب المقدَّس وكلام الله المتعالي. وفي المسيحيَّة بالذات يمكن القول بأن فعل التفسير لا يتمُّ لاحقاً بل يترافق مع فعل ولادة طريقة تلاميذ المسيح الجديدة. فالمتن الكتابي الذي سيسمَّى لاحقاً بالعهد الجديد، ليس سوى تدويناً للشهادات المختلفة التي أثارها حدث يسوع المسيح. ولهذا السبب لا يرتاح كثير من اللاهوتيين المسيحيين إلى اعتبار المسيحيَّة واحدة من "ديانات الكتاب".. إنَّ نصَّ الإنجيل هو بحدِّ ذاته تفسير، أي فعل التفسير الذي قامت به الجماعة المسيحيَّة الأولى لحدث المسيح المؤسِّس. فما لدينا إنما هو مجموع شهادات متنوِّعة الأساليب والمصادر عن حياة وأقوال يسوع الناصري، مُصاغة على ضوء الحدث الفصحي. في حين يحنُّ الحرفيُّون نوستالجياً إلى كلام الله الأصلي وكتابه الصرف الصادر مباشرة من فم الله، لا يمكننا إلا أن نحمل على محمل الجد كثافة الطبقات التي تكوِّن روايةً تمَّ إنجازها ببطء وعلى مراحل، مع ما يحمل ذلك من تردُّد واختلافات، لا بل حتى تناقضات! لا تتأسَّس المسيحيَّة على نصٍّ وحسب، لا بل في المقام الأول على جماعة مؤمنة ومفسِّرة تهتدي بفعل الروح القدس الخالق. إنَّ الطابع التاريخي الذي يطبع في العمق الإيمان المسيحي، يعني في المقام الأول أنَّ فعل التفكير النقدي لا ينفصل عن فعل الإيمان أو يأتي من بعده زائداً أو ترفاً فكرياً خاصاً بالنخبة.. فمنذ العهد الجديد ذاته نجد الكلام اللاهوتي مُرافقاً للإيمان ومتزامناً معه، بحيث يمكننا أن نعتبر العهد الجديد بأكمله فعل تفسير لحدث يسوع المسيح قامت به الكنيسة الأولى. وتصبح هكذا المسافة الزمنية والمكانيَّة التي تفصلنا عن ذلك الحدث إمكانيَّةً مُتاحةً لنا نحنُ أيضاً للقيام بفعل تفسير جديد، بدلاً من أن تكون عائقاً أو مانعاً. يجعلنا هذا البعد التفسيري الذي يتضمَّنه فعل الإيمان نأخذ على محمل الجدِّ الطابع التاريخي للحقيقة، بما في ذلك الحقائق المعلن عنها في الكشف الإلهي، وفي الوقت نفسه الطابع التاريخي للإنسان باعتباره كائناً مُفسِّراً لا ينفصل عنده فعل المعرفة عن جهده لفهم ذاته والعالم المحيط به. لا بل يستدعي الإيمان جهد التفسير ويحفِّزه، بسبب موضوع الإيمان الخاص وهو حقيقة حيَّة، لا مقولات جامدة ميتة، حقيقة يجري نقلها من جيل إلى جيل عبر الوسائط التاريخيَّة، وهي لذلك في حاجَّة مستمرَّة لأن يتم تأويلها وتأوينها دون انقطاع. | ||||||||||||||||||||||
3- التكراريَّة أو تجاهُل البعد الإبداعي | ||||||||||||||||||||||
أن يكون لدينا في الوقت الحاضر إيمان نقدي ومسؤول، يعني أن نكون قادرين على إبداع تفسير جديد للرسالة المسيحيَّة المؤسِّسة، آخذين بعين الاعتبار حالتنا التاريخيَّة الحاضرة بمجمل أبعادها، مع المحافظة على استمراريَّة خلاقة مع التقليد الذي أبدع مواضع الإيمان الأصليَّة. وما يطلقه ويحميه عمل الروح القدس هو بالضبط هذا النوع من الإيمان الحي والمعاش في الجماعة، والذي يعبِّر عن الاستمراريَّة مع إيمان الكنيسة الأولى دون الوقوع في التكرار والترداد الآلي لرسالتها العقائديَّة، بل بالامتثال لخبرتها التفسيريَّة والتماثل معها. لا كرازة حيَّة في وقتنا الحاضر دون تفسير خلاَّق للمسيحيَّة. لا يكفي في واقع الأمر محاولة التوصُّل إلى نوع من "أقلمة" العقيدة التقليديَّة مع مقتضيات العقليَّة الحالية. فكل محاولة للبحث عن لغة جديدة تعبِّر عن الإيمان تستلزم بالضرورة إعادة تفسير للمحتوى الذي تحمله هذه اللغة. ولا يتمُّ هذا الجهد التفسيري، مع ما يحمل من مخاطرة، دون وضع خبرتين أساسيتين في علاقة تبادليَّة وتفاعليَّة: من جهة، خبرة العهد الجديد الأساسيَّة وإيمان الكنيسة التقليدي، ومن جهة ثانية، خبرة الإنسان الحاليَّة في كثافتها وأبعادها المتعدِّدة. وهذه أهمُّ المبادئ التي يمكن أن تنظِّم هذا الجهد النقدي: - بحسب المجمع الڤاتيكاني الثاني، ينبغي أن يكون "الإنجيل" نفَسَ ومبدأَ حياة الكلام اللاهوتي. وهذا يعني أن نقبل بمراجعة المقولات اللاهوتيَّة بما في ذلك تلك الأكثر تبجيلاً، بناءً على النتائج الأكيدة للتفسير التاريخي النقدي للكتب المقدَّسة. - ينبغي إعادة تفسير التحديدات العقائديَّة على ضوء قراءتنا النقديَّة للكتب المقدَّسة وبحسب مقتضيات خبرتنا الإنسانيَّة الحاضرة. فالحالة التاريخيَّة التي نعيشها تمثِّل في واقع الأمر عنصراً تكوينياً في فهمنا للرسالة المسيحيَّة. وفي تجاهلنا لذلك خطر الوقوع في الدفاع عن "استقامة إيمان" لفظيَّة بحتة! - في عرضنا للرسالة المسيحيَّة لا بدَّ لنا من التمسُّك بمبدأ "تراتبيَّة الحقائق" الذي أقرَّه وأكَّده المجمع الڤاتيكاني الثاني. | ||||||||||||||||||||||
خاتمة | ||||||||||||||||||||||
ختاماً، المعرفة هي مُرافقة المحبَّة ومُرادفتها، فإذا كانت وصيَّة يسوع الأولى هي: "أحبب الله ربَّك.. وأحبب قريبك كنفسك" (متى 22/34-40) فهذه الوصيَّه تعني أيضاً "اعرف (افهم) الله ربَّك واعرف قريبك كنفسك"! | ||||||||||||||||||||||
|