Skip to Content

مقالة الإيمان و العقل - رسالة جامعة لقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني - الأرشمندريت اغناطيوس ديك

 












































































الأرشمندريت اغناطيوس ديك









الإيمان والعقل


رسالة جامعة لقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني

 
 

أصدر قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني بتاريخ 14 أيلول 1998 رسالة جامعة مطلعها "الإيمان والعقل" يتطرّق فيها إلى العلاقات بين الإيمان والعقل، بين اللاهوت والفلسفة. ودفعه إلى ذلك ما ظهر من تيارات حديثة تحجب الصبغة العقلانية عن الإيمان وتقلّل من مقدرة العقل والفلسفة على الوصول إلى الحقائق المطلقة مما ينعكس سلباً على القناعات الأساسيّة التي توّجه الحياة والقيم الأخلاقيّة. وكان حريّا بالبابا يوحنا بولس الثاني رجل الإيمان الصلب والمتضلعّ في الفلسفة الحديثة أن يكتب هذه الرسالة الجزيلة الأهميّة.


تشتمل الرسالة على تمهيد وسبعة فصول وخاتمة ويمكن أن نلخصّها حول ثلاث نقاط:


أولاً: التأكيد الأساسي: الإيمان والعقل طريقان متكاملان للبلوغ إلى الحقيقة.


ثانياً: تاريخ العلاقات بين الإيمان والعقل، بين اللاهوت والفلسفة.


ثالثاً: توجيهات للفلاسفة واللاهوتيين حول التعاون الذي يجب أن يقوم بينهم.


أولاً: الإيمان والعقل طريقان متكاملان للبلوغ إلى الحقيقة


الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكنّان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة. الإنسان منذ نشأته يطرح على ذاته أسئلة عميقة تطبع مسيرة الوجود البشري بطابع متميز: من أنا وإلى أين؟ لماذا وجود الشرّ وماذا يعقب الحياة؟ (نجدها في كتب العهد القديم وحِكم الشرق الأقصى وأشعار اليونان وفلاسفتها والميثولوجيات القديمة). هذه الأسئلة لها مصدر مشترك: البحث عن المعنى. والجواب على هذه الأسئلة هو الذي يوجّه حياة الإنسان.


الكنيسة ليست غريبة عن هذه المسيرة ومن مهامها خدمة الحقيقة. إنّها تعلن حقيقة المسيح الطريق والحق والحياة وتشجّع الجهد البشري للبلوغ إلى الحقيقة وتؤكد على مقدرة العقل على الوصول إلى الحقائق الأساسيّة وتشجّع التفاعل والتكامل بين الإيمان والعقل.


الكشف عن حكمة الله


لقد رضي الله في جودته وحكمته أن يكشف لنا ذاته ويطلعنا على سرّ مشيئته (أفسس1/9). تلك مبادرة مجانية على الإطلاق تصدر من الآب لتتدارك البشريّة وتخلصّها.


في المجمع الفاتيكاني الأول أكبّ الآباء على التنويه بالطابع السماوي في الوحي الإلهي. النقد العقلاني الذي كان يطعن في الإيمان انطلاقاً من طروحات خاطئة كان يهدف إلى نفي كلّ معرفة لا تجنى من طاقات العقل الطبيعية. فأكّد المجمع بقوّة أنّ هناك معرفة هي من نتيجة الإيمان إلى جانب المعرفة النابعة من العقل البشري. والإيمان يرتكز على كلام الله ووحيه وهو لا يغلط ولا يريد أن يخدع.


الحقيقة التي نحصل عليها عن طريق الفكر الفلسفي والحقيقة الصادرة عن الوحي لا تختلطان والواحدة لا تُغني عن الأُخرى. وهما متميزتان من حيث المصدر (العقلّ ? الوحي) والموضوع (ما يكشفه الخلق ? أسرار الله الحميمة).
وآباء المجمع الفاتيكاني الثاني ثبّتوا نظرهم على يسوع الذي كشف لنا سرّ الله عبر أفعاله وتعاليمه وخاصة بموته وقيامته. جاء المسيح في التاريخ وملء الزمن وهو قمّة الوحي. إنّ تجسّد ابن الله يتيح لنا أنّ نشهد الحصيلة النهائية التي لم يكن العقل البشري من منطلق ذاته يتصورها ولو بالخيال، وهو أنّ الأبدي اقتحم الزمن والله اتخذ وجه إنسان. الحقيقة التي عبّر عنها وهي المسيح لم تعد محصورة في حيّز جغرافي أو ثقافي محدود بل هي مفتوحة على كلّ إنسان. مما لاشك فيه أن مصير الإنسان لا يستضيء حقاً إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسّد. أين يستطيع الإنسان أن يلقى جواباً على الأسئلة الخطيرة كالعذاب وعذاب البريء والموت إلاّ في الضوء المنبعث من سرّ آلام المسيح وموته وقيامته.


العقل في مواجهة السرّ


الوحي يظل مطبوعاً بطابع السرّ. يذعن المؤمن للوحي بطاعة الإيمان. والدلالات الماثلة في الوحي تساعد هي أيضاً العقل على فهم السرّ.


العلاقة العميقة بين المعرفة بالإيمان والمعرفة بالعقل يعبّر عنها الكتاب المقدّس الذي يشيد في كتبه بالجهد للبلوغ إلى الحكمة (ابن سيراخ 14/20-27). التاريخ وتقلبات الشعوب هي بمنأى عن هذا السياق. فالإيمان لا يتدخلّ ليقلّل من استقلالية العقل أو لينتقص من رقعة عمله ولكن ليفهم الإنسان أنّ الله يتجلى ويعمل من خلال هذه الأحداث.


 الإيمان يرهف النظر الباطن ويتيح للعقل أن يكتشف في سياق هذه الأحداث ملامح العناية الإلهية وحضورها الفاعل. من المستحيل أن يقوم صراع أو منافسة بين العقل والإيمان. وسفر الحكمة يؤكد أنّ الإنسان إذا عمل فكره في الطبيعة بإمكانّه أن يرتقي منها إلى الخالق: "إنّه بعظم جمال المبرؤات يبصر خالقها على طريق المقايسة" (حكمة17/5).


ويرى القديس بولس أنّ الله قد وضع في جذور الخلق قدرة العقل على أن يتخطى المعطيات الحسيّة بلا عناء ليدرك مصدر كلّ شيء أعني الخالق. ولكن على أثر تمرد الإنسان على الله ورغبته في أن يجعل نفسه في حالة استقلال كامل ومطلق زالت قدرته على أن يرتقي بلا عناء إلى الخالق والقديس بولس يكشف لنا إلى أي مدى أمست باطلة أفكار الناس بسبب الخطيئة (روم1/21-22). وجاء المسيح فكان مجيئه هو الحدث الخلاصي الذي افتدى العقل من ضعفه وحرره من القيود التي بات سجينها وبالتالي أصبحت علاقة المسيحي بالفلسفة بحاجة إلى تمييز جذري.


 يبرز القديس بولس العلاقة بين "حكمة هذا العالم" وحكمة الله المتجليّة في يسوع المسيح (كورنتس1/20-27) العلاقة بين الإيمان والفلسفة تجد المناداة بالمسيح المصلوب والناهض من الموت الصخرة التي يمكن أن ترتطم بها فتغرق كما يمكن أن تتخطاها لترتمي في محيط الحقيقة الذي لا حدود له. هنا يظهر بجلاء الحدّ الفاصل بين العقل والإيمان ولكنّ نرى أيضاً أين يمكنهما التلاقي.


التقدّم في البحث عن الحقيقة


نوّه القديس بولس في خطابه في أثنيا (أعمال فصل 17). بحقيقة ما برحت الكنيسة تستفيد منها وهي أن الله قد زرع في عمق الإنسان التوق والحنين إلى الله. "كلّ الناس يحنّون إلى المعرفة (أرسطو) ويبتغون البلوغ إلى الحقيقة. قال القدّيس اغسطينوس: لقد لقيت أناساً كثيرين يبتغون الغشّ ولكني لم ألتقِ أحداً يرضى أن يُغَش".


إنّ ما تحقق من بحوث في المجال العملي يضاهي في الأهمية ما تحقق في الصعيد النظري أعني البحث عن الحقيقة في مجال الخير. لابدّ من أن تكون القِيَم التي نختارها وننتهجها في الحياة قيماً حقيقيّة.


الحقيقة يتمثلها الإنسان في البدء في صيغة تساؤلية: هل للحياة معنى وما غايتها. وإلى جانب وجودنا هناك حقيقة مبرمة هي أنّنا سنموت. وكلّ منا يريد أن يعرف هل الموت هو خاتمة وجوده أم هناك شيء يتخطى الموت. لا يستطيع أحد أن يفلت من هذه الأسئلة. ويتوق الإنسان إلى حقيقة شاملة تصح في كلّ مكان وزمان. الفرضيّات تستطيع أن تعزينا ولكنها لا تستطيع أن تروي عطشنا. ويأتي يوم لابدّ لنا جميعاً من أن نرسي وجودنا على حقيقة نعتبرها مرتكزاً نهائياً وتتيح لنا يقيناً لا يرقى إليه الشك من بعد.


العطش إلى الحقيقة هو من التجذّر في قلب الإنسان حيث لا يمكن صرف النظر عنه وإلاّ يصبح الوجود في أزمة. بفضل مؤهلات الفكر باستطاعة الإنسان أن يظفر بالحقيقة ويعترف بها.


هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يحصّلها لا عن طريق البحث العقلي وحسب بل أيضاً عن طريق الوثوق بأشخاص آخرين بإمكانهم أن يضمنوا له يقين الحقيقة وسلامتها. من يستطيع أن يراقب لحسابه الخاص ذاك السيل المتفق من المعلومات التي تصل إلينا من كلّ أنحاء العالم ومن يستطيع أن يعود وينتهج الدروب الاختباريّة والفكريّة التي اختزنت بفضلها كنوز الحكمة والتدّين لدى البشريّة.


الإنسان ينتهج في البحث طريقاً لا نهاية لها بشريّاً بحث عن الحقيقة وبحث عن شخص يضع فيه ثقته، ويستطيع الإيمان المسيحيّ أن يساعده ويؤهله عملياً ليفلح في هذا البحث. الإيمان المسيحي يتخطى مجرّد التصديق ويُدخل الإنسان في نظام النعمة الذي يمكنه من المشاركة في سرّ المسيح والتعرّف على الله الواحد في تثليث أقانيمه.


هذه الحقيقة التي يكشفها الله لنا في يسوع المسيح لا تناقض الحقائق التي ندركها بالفلسفة. وحدة الحقيقة هي من أسس مسلّمات العقل البشري يعبّر عنها مبدأ اللاتناقض. ونجد في الوحي يقين هذه الوحدة عندما يؤكد لنا أنّ الإله الخالق هو أيضاً إله تاريخ الخلاص. الإله الذي هو أساس وضمانة النظام الطبيعي الذي يرتكز عليه العلماء هو نفسه الذي يكشف لنا ذاته أبا ربنا يسوع المسيح.


وحدة الحقيقة هذه الطبيعيّة والمنزلة تجد في المسيح تناغمها الحيّ والشخصي على حدّ ما يذكّر به الرسول بولس: "الحقيقة التي في يسوع" (أفسس4/21، قولسي1/15-20) إنّه الكلمة الأبدي الذي به كُونّ كلّ شيء وفي آن واحد الكلمة المتجّسد الذي كشف لنا الآب.


من هذا المنطلق علينا أن نستوضح العلاقة الصحيحة بين الحقيقة الملهمة والعلم الفلسفي نتناول أولاً العلاقات بين الإيمان والفلسفة عبر التاريخ ثمّ نستوضح بعض المبادئ التي يمكن اعتمادها لإقامة الصلة الصحيحة بين هاتين المنزلتين في المعرفة.


ثانياً: تاريخ العلاقات بين الإيمان والعقل اللاهوت والفلسفة


1- العهد الرسولي


يورد كتاب أعمال الرسل كيف اصطدم البلاغ المسيحي منذ البداية بالتيارات الفلسفيّة السائدة في ذلك العهد. وجادل بولس في أثينا بعض الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين (أعمال17/28). المسيحيّون الأولون لم يقصروا استشهاداتهم على "موسى والأنبياء" في خطبهم إلى الوثنيين بل عمدوا أيضاً إلى معرفة الله الطبيعية وإلى صوت الضمير عند كلّ إنسان (روم1/19-21، 2/14-15، أعمال14/16-17) وعمد بولس إلى الاستناد إلى فكر الفلاسفة اليونان الذين نقدوا الديانة الميثولوجيّة الخرافيّة وارسوا معتقدهم في الألوهة على مرتكز عقلي.


تجاه هذا الانفتاح على الفلسفة كان هناك تحفظ تجاه بعض التيارات التي كانت تدّعي المعرفة الباطنيّة كالغنوصيّة. وإياها على ما يبدو أشار القديس بولس في رسالة إلى أهل قولسي: "إياكم وأن يخلبكم أحد بالفلسفة، بذلك الغرور الباطل القائم على سنّة الناس وأركان العالم لا على المسيح" (قولسي2/8). وثمّة كتّاب آخرون من القرون الأولى من مثل القديس ايريناوس وترتليانوس ساروا في خطى القديس بولس وأبدوا تحفظاتهم على بعض من المواقف الثقافية المدعية إخضاع الحقيقة المنزلة لتأويل الفلاسفة. وانتقد الفيلسوف الوثني شلسيوس المسيحيين بأنّهم قوم "أميّون وأفظاظ" فملتقى الفلسفة والمسيحيّة لم يكن فورّياً ولا هيّناً. فالمسيحيّون الأولون ركزوا على المناداة بالقيامة وبشرى الخلاص وإن لم يكونوا تخلوا عن واجب التعمق في فهم الإيمان وحوافزه.


2- عصر الآباء


لـمّا انتمى إلى المسيحيّة عدد من المثقفين الذين خرجوا من الأوساط الفلسفيّة جرى لقاء مثمر بين الإيمان المسيحيّ والفكر الفلسفي. ومن روّاد هذا اللقاء القديس يوستينوس (من نابلس استشهد عام 165) وكذلك اكليمنضوس الأسكندري الذي يشبّه الفلسفة اليونانيّة من باب القياس بالشريعة الموسويّة ويري فيها تعليماً ممّهداً للإيمان المسيحيّ ومدخلاً إلى الإنجيل.


واعتمد المفكرون المسيحيّون الفكر الفلسفي لتوضيح العقيدة المسيحيّة بطريقة نقديّة. ومن أوائل الأمثلة على ذلك أوريجانوس فهو يردّ على هجمات شلسيوس الفيلسوف مستخدماً الفلسفة الأفلاطونيّة في تكوين أول نواة في تاريخ اللاهوت المسيحي. لفظة اللاهوت نفسها /ثاولوجيا/ ومفهومها كخطاب عقلاني حول الله كانا حتى ذاك مرتبطين بجذورهما اليونانيّة: في فلسفة أرسطو كانت هذه اللفظة تشير إلى الجزء الأشرف بل إلى ذروة الخطاب الفلسفي. واستعملها المفكرون المسيحيّون في توضيحهم العقيدة الحقيقيّة في شأن الله.


وإذ استعان اللاهوتيون بالفكر الفلسفي لا سيما الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد أخضعوه لتغييرات عميقة على ضوء الوحي وبخاصة في نطاق بعض المقولات كخلود النفس وتأليه الإنسان وأصل الشرّ.


في هذا المسعى إلى مسحنة الفكر الأفلاطوني والأفلاطوني الجديد لابدّ من أن نذكر خصوصاً في الشرق الآباء الكبادوكيين باسيليوس الكبير وأخاه غريغوريوس النيصيّ وصديقه غريغوريوس النازيانزي وصاحب المؤلفات المنسوبة إلى ديونيسيوس الأريوباغي وفي الغرب القديس اغسطينوس. وهذا بعد أن اختبر كافة المذاهب والمدارس الفلسفيّة ركن إلى المسيحيّة وكان يوجه الملامة إلى الأفلاطونيين أنفسهم الذين كان يركن إليهم بطريقة مميزة لأنّهم عرفوا الغاية التي يجب النزوع إليها ولكنّهم جهلوا الطريق المؤديّة إليها، وأفلح اغسطينوس في وضع أولى كبريات الخلاصات في الفكر الفلسفي واللاهوتي.


لقد رحّب الآباء ترحيباً كاملاً بالعقل المنفتح على المطلق ورفدوه بالثروة الصادرة عن الوحي. ومع ذلك لم يخشَ الآباء في مواجهة الفلاسفة من الإقرار بالعناصر المشتركة كما بالفوارق القائمة بينها وبين الوحي


3- العصر المدرسي في القرون الوسطى


كان رائد الفكر المدرسي في الغرب القديس انسلموس أسقف كانتربوري (قرن حادي عشر) واصبح اللاهوت يدّرس في الجامعات أسوة بالفلسفة لاسيما مذهب ارسطو. وكان الأستاذ لاهوتياً وفيلسوفاً في الوقت نفسه. وقمة ذلك العصر القديس توما الأكويني (+1274) الذي له الفضل الكبير في التركيز على التناغم القائم بين العقل والإيمان. الطبيعة وهي موضوع الفلسفة بإمكانها أن تساعد في فهم الوحي الإلهي وكما أنّ النعمة تفترض الطبيعة وتكملّها كذلك الإيمان يفترض العقل ويكملّه. ونادى بالتوفيق بين دنيوّية العالم وجذرية الإنجيل فتجنّب بذلك النزعة اللاطبيعيّة المتنكرة للعالم وقيمه من دون أن يخلّ بالنظام العلوي ومقتضياته الصارمة. استعان بالفلسفة ليتفهّم حقائق الإيمان ويدافع عنها من دون أن يتنكرّ للسرّ. وقناعاته اللاهوتية مكّنته من صياغة فلسفة مرتكزة على الكيان والواقع.


4- العصر الحديث مأساة الفصل بين الإيمان والعقل


كان القديس البرتوس الكبير والقديس توما في طليعة المعترفين بضرورة التسليم باستقلالية الفلسفة والعلم في مجالات أبحاثهما مع المحافظة على العلاقة العضويّة بين اللاهوت والفلسفة. ولكن مع نهاية العصر الوسيط أخذ الفرق الشرعي بين علمي اللاهوت والفلسفة يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى انفصال.


وتوصلوا إلى فلسفة معزولة ومستقلة تماماً عن محتوى الإيمان. وماتوصّل إليه الفكر الآبائي والوسيطي من إقامة وحدة عميقة وفاعلة، معرفة قادرة على الوصول إلى أرقى أشكال الفكر قد أنهار عملياً تحت وطأة المذاهب الفلسفية المنادية بمعرفة مفصولة عن الإيمان وتحلّ محلّه.


توصلّت بعض المذاهب إلى فرض ذهنية وضعيّة لم تكتفِ بالابتعاد عن كلّ نظرة مسيحيّة إلى العالم بل أهملت أيضاً كلّ مرجعيّة إلى أيّ رؤية ميتافيزيقية وأخلاقيّة. ولا مجال هنا لاستعراض تاريخ الفلسفة الحديثة لاسيما الايديالية والعدمية والماركسية والوجودية والعلومية الوضعيّة.


من جراء التغييرات الثقافية أعرض بعض الفلاسفة عن التماس الحقيقة في ذاتها واتخذوا لهم هدفاً وحيداً الحصول على يقين شخصي أو على منفعة عملية. ولكن حتّى عند الفلاسفة الذين ساهموا في توسيع الهوّة بين الإيمان والعقل نجد جذوراً فكرّية نفيسة بإمكانها أن تساعد في الكشف عن طريق الحقيقة (التحاليل العميقة في شأن الإدراك والخبرة واللاوعي والشخصيّة والتبادل الشخصي والحريّة والقيم والزمن والتاريخ). هذا لا يمنع من أنّ العلاقة بين الإيمان والعقل قد أصابها الخلل وكلاهما قد افتقرا وضعفا. الإيمان بدون العقل أخذ يركز على الإحساس والاختبار وأخذ يتعرض لأن يمسي مجرّد أسطورة أو خرافة. وكذلك العقل إذا لم يدركه إيمان بالغ لا يعود يهتم لما هو جدّي وجذري في الحياة لذا على الكنيسة اليوم أن توجه النداء ليعود الإيمان والعقل إلى سابق ما كانا عليه من وحدة عميقة.


ثالثاً: توجيهات بشأن العلاقة بين اللاهوت والفلسفة


1- تدخلات السلطة التعليمية الكنسية في نطاق الفلسفة


الكنيسة تشجب الفلسفات المنافية للوحي


مع احترامها لاستقلالية النهج الفلسفي ترى الكنيسة أنه بإمكانها بل من واجبها أن تمارس في ضوء الإيمان ما أوتيت من سلطة التمييز والنقد تجاه الفلسفات والنظريات التي تناقض العقيدة المسيحيّة. يجب أن لا ننظر إلى هذا التميز من منظار سلبي، وتدخلات الكنيسة تهدف بالعكس إلى حثّ الفكر الفلسفي وتعزيزه وتشجيعه. والفلاسفة هم أول من يتفهّم ضرورة النقد الذاتي وتخطي الحدود التي انصهر فيها فكرهم.


شجبت الكنيسة في العصور القديمة مقولة تواجد النفوس المسبق وفي العصور الوسطى بعض تأثيرات فلسفة ابن رشد على اللاهوت وفي عصرنا حذّرت من الوقوع في العقلانية التي تحصر المعرفة في العقل دون الوحي وفي الإيمانية التي تنكر مقدرة العقل على التوصل إلى معرفة وجود الله بدون الإيمان، وأدان البابا بيوس الحادي عشر رسمياً الماركسيّة الملحدة واسمع البابا بيوس الثاني عشر صوته عندما حذّر في رسالته العامة "الجنس البشري" من التآويل الزائفة المرتبطة بطروحات التطورية والتاريخانيّة. وحذّر مجمع الإيمان في الحقبة الأخيرة من خطر التسليم بلا نقد من قبل بعض لاهوتيي التحرير بالطروحات والمنهجيات المنبثقة من الماركسيّة.


اهتمام الكنيسة بالفلسفة


لم تكتفِ السلطة التعليميّة في الكنيسة بالتنبيه إلى الأخطاء والانحرافات في التعاليم الفلسفية بل أرادت بنفس الاهتمام التأكيد على المبادئ الأساسيّة لإجراء تجديد صحيح في الفكر الفلسفيّ. وأنجز البابا لاون الثالث عشر في رسالته العامة "الأب الأزلي" خطوة بات لها تأثير كبير في حياة الكنيسة. هذا النصّ لا يزال اليوم الوثيقة الحبرية الوحيدة بهذا المستوى المكرسة كلياً للفلسفة. هذا الحبر العظيم استعاد وطوّر ما جاء في المجمع الفاتيكاني الأول بشأن العلاقات بين الإيمان والعقل مبنياً أن الفكر الفلسفي إنّما هو رافد أساسي للإيمان والعلم اللاهوتي وبدا للبابا لاون الثالث عشر أن العودة إلى التنويه بفكر توما الأكويني هي أمثل طريق لنعود ونكتشف نمطاً في استعمال الفلسفة يتلاءم ومقتضيات الإيمان. فهو في ذات اللحظة التي يميّز فيها كما ينبغي بين الإيمان والعقل تمييزاً كاملاً يربطهما بربط صداقة متبادلة فيحفظ لكل منها حقوقه ويسهر على كرامته. ومن جرّاء هذا النداء عرفت الأبحاث في فكر القديس توما وبقيّة المؤلفين المدرسيّين نهضة جديدة. وأكثر اللاهوتيين الكاثوليك في عصرنا والذين ساهموا مساهمة جلّى في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني هم ابناء هذا التجدّد في الفلسفة.


علاوة على استعادة الفكر التوماوي ظهر عدد كبير من الفلاسفة الكاثوليك الذين التحقوا بتيارات فكرية حديثة ووضعوا مؤلفات فلسفية لها أثر كبير. والمجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره "فرح ورجاء" يقدم في فصل كامل شبه ملخص للانثروبولوجية البيبلية وشجباً للإلحاد. هذه الصفحات تكتسب في مضامينها معنى فلسفياً عميقاً.


واهتم المجمع أيضاً بتدريس الفلسفة للمرشحين للكهنوت هذا التدريس يقود الطلاب إلى تحصيل معرفة عميقة ومتلاحمة الأجزاء للإنسان وللعالم والله معتمدين على التراث الفلسفي ذي القيمة الخالدة ولا تغفل البحوث الفلسفية المعاصرة.


في كثير من المدارس الكاثوليكية في غضون السنوات التي عقبت المجمع الفاتيكاني الثاني لوحظ في هذا الشأن بعض الذبول الناجم عن تراجع لا في قيمة الفلسفة المدرسية وحسب بل بوجه أشمل في تقدير دراسة الفلسفة ذاتها حقّ قدرها. وأخذ عدد من اللاهوتيين ينتحلون هذه اللامبالاة بدرس الفلسفة. وسبب ذلك حذر الفلسفة المعاصرة تجاه العقل وإهمال كلّ بحث ميتافيزيقي والانصباب على العلوم الإنسانية. إنّ الاستغناء عن دراسة الفلسفة يقود إلى عدم التروّي والاستسلام لكل تعليم بدون تمحيص فالكنيسة تدعو إلى تنشئة فلسفية ولاهوتية واعية.


الكنيسة تعير الفلسفة اهتماماً كبيراً ونظراً للرابط العميق القائم بين العمل اللاهوتي والبحث الفلسفي عن الحقيقة يبقى توضيح المبادئ والضوابط لإقامة علاقة متناغمة وفاعلة بين اللاهوت ومختلف المقولات والنظريات الفلسفية المطروحة في العالم المعاصر.


2- التفاعل بين اللاهوت والفلسفة


ينتظم اللاهوت بصفته علم الإيمان في ضوء مبدأ منهجي مزدوج: سماع الإيمان وفهم الإيمان. تطبيقاً للمبدأ الأول يتناول اللاهوت محتوى الوحي كما تطور شيئاً فشيئاً في التقليد المقدس والكتب المقدّسة والتعليم الحي في الكنيسة. من منطلق المبدأ الثاني يهدف اللاهوت إلى تلبية مقتضيات العقل باللجوء إلى الفكر النظري.


على اللاهوت العقائدي أن يتمكن من فهم سرّ الله الواحد والثالوث في معناه الشامل وفهم التدبير الخلاصي. بدون رفد الفلسفة يستحيل الخوض في قضايا لاهوتية كالكلام عن الله أو العلاقات الشخصيّة داخل الثالوث وعمل الله الخلاق في العالم والعلاقة بين الله والإنسان وهويّة المسيح الإله التام والإنسان التام. فاللاهوت العقائدي النظري يفترض فلسفة مبنيّة على الحقيقة الموضوعيّة في كلّ ما يتعلق بالإنسان والعلم والكيان.


عندما يقبل اللاهوت الأساسيّ على دراسة الوحي ومصداقيته متلازمة مع فعل الإيمان الذي يوازيه عليه أن يبيّن كيف تظهر في ضوء المعرفة الإيمانيّة بعض الحقائق التي يدركها العقل في طرق بحثه المستقلّة. هذه الحقائق يفرغ عليها الإيمان كامل معانيها. ويتوصل الذهن إلى التحقق من وجود طريقة تؤهب الإنسان حقاً لقبول الإيمان من دون أن يناقض العقل مبادئه الخاصة واستقلاليته المميزة.


اللاهوت الأدبي قد يكون بحاجة أشدّ إلى الرفد الفلسفي وعليه أن يستعين بنظريّة فلسفية سليمة في شأن الطبيعة البشريّة والمجتمع كما في شأن المبادئ العامة التي يجب أن يحتكم إليها القرار الأخلاقي: الشريعة، الضمير، الحريّة، المسؤولية الشخصية، الخطيئة،?


رُبَّ معترض أن اللاهوت المعاصر بدلاً من أن يحتكم إلى الفكر الفلسفي عليه أن يستعين بأشكال أخرى من العلم البشري كالتاريخ والعلوم. وهناك من يؤكد من منطلق تحسّس متزايد للعلاقة بين الإيمان والثقافة أن اللاهوتي يجب أن يُؤثر التوجه إلى التراثات الحكمية التقليديّة على التوجه إلى الفلسفة الصادرة من بلاد اليونان أو أوربا الوسطى. وهناك من ينطلق من تصّور خاطئ لتعدّد الثقافات فينكر على التراث الفلسفي المعتمد في الكنيسة كلّ قيمة شمولية. كلّ هذا مع ما فيه من حقيقة جزئية لا يغني عن فكر فلسفي ناقد وشامل يمكنّنا من أن نمحّص في مختلف رؤى الحياة كما في مختلف الثقافات لا ما يتصوره الناس بل ما هي الحقيقة الموضوعيّة.


موضوع العلاقة بالثقافات جدّير بأن يدرس بطريقة مميّزة. تاريخ اللقاء والتواجه مع الثقافات اختبار عاشته الكنيسة منذ بدء مناداتها بالإنجيل.


اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات ولّد واقعاً جديداً وسقطت الحواجز القائمة بين مختلف الثقافات "أنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح لأنّه هو سلامنا هو الذي جعل من الشعبين واحداً" اللقاء بين الإيمان ومختلف الثقافات ولّد في الحقيقة واقعاً جديداً. الطريقة التي يعيش فيها المسيحيّون إيمانهم مشبعة بثقافة المحيط وتساهم بدورها في تكوين ميزاتها شيئاً فشيئاً. إنّ البشارة التقت أولاً في طريقها الفلسفة الإغريقية. واليوم بمقدار ما يتصل الإنجيل بمساحات جديدة بقيت حتى الآن خارج نطاق الإشعاع المسيحيّ تنفتح مجالات جديدة للانثقاف. ونذكر بالأخص الهند الغنية بالتراث الروحي، وهناك قاعدتان يجب مراعاتهما يجب أن لا ننسى الطابع الشمولي للإيمان فلا نسقط شيئاً منه للتكيّف مع الثقافات الأخرى. ثانياً لا يجوز التنكر لما اكتسبته الكنيسة من قبل بإنثقافها في الفكر الإغريقي اللاتيني.


وبمقدار ما يستعين اللاهوتي بالفكر الفلسفي ليتفهم محتوى الإيمان فالفيلسوف المؤمن يتوصل إلى عمق فلسفي ما كان يصل إليه لولا نور الوحي. نورد مثالاً على ذلك علاوة على من ذكرناهم في العصور القديمة والوسطى شخصيات من العصر الحديث: نيومن، جاك ماريتان، إيتيان جلسون، سولوفييف، لوسكي? إنّ التنبه للمسيرة الروحيّة التي حققها هؤلاء المعلمون لا يمكن إلاّ أن يدعم التقدم في البحث عن الحقيقة وتطويع نتائجها لخدمة الإنسان.


يمكن أن تستوضح الآن أوضاع الفلسفة المختلفة تجاه الوحي


هناك الفلسفة التي نشأت خارج نطاق الوحي، الفلسفة اليونانيّة التي سبقت المسيح والفلسفات التي نشأت في الهند والشرق الأقصى. وهناك فلسفة الذين عرفوا الوحي وتنكروا له وقالوا بمادئ تتعارض مع الوحي المسيحيّ. وهناك فلسفة المؤمنين الذين وضعوا فاصلاً بين إيمانهم وفلسفتهم بحيث لا تأثير للإيمان على الفلسفة ولاتناهض الفلسفة مبادئ الإيمان، وهناك الفلسفة التي سميت بالمسيحيّة لا وجود لفلسفة رسميّة في الكنيسة وهذه التسمية تعني منهجاً فلسفياً مرتبطاً بالإيمان المسيحيّ ونشمل بهذه العبارة ما أحرزه الفكر الفلسفي من تطورات هامة لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا ما رفدها به الإيمان المسيحيّ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ونظراً لهذا الارتباط بالوحي ولكون الفلسفة تعتبر أيضاً خادمة اللاهوت فللسلطة الكنسية أن تقدم بعض التوجيهات مانتمناه على اللاهوتيين والفلاسفة أن يهتدوا بهدي سلطة الحقيقة الواحدة فيصوغوا فلسفة تتجانس مع كلام الله. هذه الفلسفة تكون فسحة اللقاء بين الثقافات والإيمان المسيحي ومكان التوافق بين المؤمنين وغير المؤمنين والإيمان وسلامته يقويان عندما يرتبط الإيمان بفكر لا تخلّى عنه "من يؤمن يعقل وعندما يعقل يؤمن" (القديس اغسطينوس).


3- مقتضيات الإيمان وتحديات الفكر المعاصر


يتبيّن من الكتاب المقدّس أن الواقع الذي نختبره ليس بالأمر المطلق. الله وحده مطلق والإنسان مخلوق على صورة الله (عاقل، حرّ، خالد) الشر الأدبي ناجم عن جرح في الإنسان مصدره انحراف في استعمال الحريّة البشريّة. ونجد في كلام الله إيضاحاً لمعنى الوجود وجواباً يوجه الإنسان إلى يسوع المسيح كلمة الله المتجسّد وفيه ملء كمال الوجود البشري ينتج عن ذلك رفض كلّ شكل من أشكال النسبويّة والماديّة والحلوليّة.


القناعة الأساسيّة في هذه الفلسفة المتضمّنة في الكتاب المقدّس هي أن الحياة البشريّة والعالم لها معنى وتوجّه نحو اكتمالها في يسوع المسيح وسيبقى سرّ التجسّد المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقاً لفهم لغز الوجود البشري والعالم المخلوق والله نفسه.في سر الكلمة المتجسد تصان كلّ من الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة وتبقى كلّ منهما مع استقلاليتها وتتجلى في الوقت نفسه الصلة الفريدة في علاقتهما المتبادلة من غير اختلاط ولا تشوّش.


تجاه قناعات الإيمان هناك تصدّع وضياع في الفكر المعاصر. كثيرون يتساءلون هل هناك بعد من معنى للتساؤل عن المعنى. إنّ تعدّد النظريات في تفسير الكون وحياة الإنسان يثيران الشكوك في النفوس و يفضيان إلى الوقوع في الريبة واللامبالاة أو في مختلف أشكال العدميّة. كلّ فلسفة لا تتساءل عن معنى الوجود تتعرض لخطر تحجيم العقل وحصره في الوظائف الأدائية بمنأى عن كلّ شغف بالبحث عن الحقيقة.


كي تكون الفلسفة في تناغم مع كلام الله لابدّ لها من ثلاثة مقتضيات


- أن تكتسب قبل كلّ شيء بعدها الحكمي وقدرتها على البحث في الحياة بمعناها الأخير والشامل، أن تكون المرجعيّة الأخيرة لتوحيد العلم والعمل الإنساني (وليس مجرد منطق ونقد لمختلف أساليب المعرفة)


- أن تثبت قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الحقيقة الموضوعيّة من منطلق مبدأ المعادلة بين الواقع والعقل الذي ارتكز عليه ملافنة الفلسفة المدرسيّة (التحفظ من الايديالية والنسبوية).


- أن تتسّم بقيمة ميتافيزيقية حقيقيّة بإمكانها أن تتخطى المعطيات الاختباريّة للوصول في سعيها إلى الحقيقة إلى ما هو مطلق. كلام الله في علاقة دائمة مع ما يتخطى الاختبار وحتى الفكر البشري نفسه. البحث الميتافيزيقي يظهر بمثابة وساطة مميزة في البحث اللاهوتي كلّ لاهوت خال من النظرة الميتافيزيقية لا يمكنه أن يذهب أبعد من تحليل الاختبار الديني كثيرون من علماء التفسير يتوقفون عند الجانب الأدبي واللغوي للتعبير عن الحقيقة ويتحاشون التحقيق في ماهيتها. إن الإيمان يفترض أن اللغة البشرية بوسعها أن تعبر عن الحقيقة الإلهيّة والعلويّة بتعابير تشبيهية ولكنّها لا تقل بلاغة عن غيرها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان بوسع كلام الله ? وهو دائماً كلام إلهي بلغة بشريّة ? أن يقول شيئاً عن الله وإلاّ لم يكن ثمّة من وحي إلهي بل مجرد تعبير عن مفاهيم بشريّة في شأنه تعالى أو ما نفترض أنّه يفكرّ في شأننا.


الإنسان قادر على الوصول إلى تصوّر للمعرفة موّحد وعضوي. وهذه مهمة يجب على الفكر المسيحي أن يطلّع بها على مدى الألف المقبل.


إنّ الذين يودون الاستجابة فلسفياً للمقتضيات التي يفرضها كلام الله عليهم أن يبنوا خطابهم مرتكزاً على هذه المسلّمات ويضعوا ذواتهم على خط متماسك مع التقليد الكبير الذي ابتدأه القدامى وتابعه آباء الكنيسة ومعلمو الفلسفة المدرسيّة واندمج أخيراً في المكاسب الجوهريّة التي احرزها الفكر الحديث والمعاصر. إن الركون إلى التقليد ليس مجرد تذكير بالماضي بل هو الإقرار بقيمة تراث هو ملك البشريّة كلها. الإلحاح على ضرورة علاقة تداخل وثيقة بين الفكر المسيحي المعاصر والفكر الذي أفرزه التقليد المسيحي يهدف إلى اتقاء الأخطار التي تلازم بعض أنماط من الفكر المنتشرة اليوم بطريقة لافتة (الانتقائية، التاريخانية، المثالية العلومية، البراغماتيةـ العدمية?)


هناك مفكرون أطلقوا على عصرنا "صفة ما بعد الحداثة". وفي هذا التعبير عدة التباسات وفي نظر بعض التيارات أن وقت اليقينات قد ولّى بلا رجعة وأن على الإنسان من الآن فصاعداً أن يتعوّد العيش في جوّ انتفاء كلّ معنى وتحت مظلة الوقتي والزائل. وهناك من الكتاب من ينكرون أيضاً يقينات الإيمان في نقدهم الهدّام لكلّ يقين وفي جهلهم التمييزات التي لابدّ منها. هذه الذهنية تجد لها بعض ما يفسّرها في خبرة الشرّ الفظيعة التي وسمت عصرنا. في مواجهة هذه الخبرة الفاجعة لم تتمكن التفاؤلية العقلانيّة من الصمود بعد ما توسمت في التاريخ مسيرة العقل الظافرة وفي العقل ينبوع السعادة والحريّة وقد تنتج عن ذلك أن أخطر ما يهدّد الإنسان في نهاية القرن هو تجربة الانسياق إلى اليأس. وما يزال هناك شيء من الذهنية الوضعية لا يزال يروّج للوهم القائل بأنّ الإنسان بفضل مكاسبه العلميّة والتقنيّة وبصفته كائناً خلاّقاً يستطيع أن يجعل ذاته سيداً مطلقاً يسيطر على مصيره.


4- مهام اللاهوت المعاصر


في مختلف حقب التاريخ وجد اللاهوت بصفته قيّماً على فهم الوحي ما يدفعه دائماً إلى الاستفادة من العناصر المبثوثة في مختلف الثقافات ليدخل فيها بواسطة محتوى الإيمان طبقاً لأسلوب عقلاني متماسك واليوم مطلوب من اللاهوت مع التمسّك بالتقليد الكنسي متابعة التعمّق في تفهّم كلام الله و



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +