فمن آمن واعتمد يخلص، و من لم يؤمن يحكم عليه (مر 16 /16)
مقالة في القداسة - المطران يوسف أنيس أبي عاد
| ||||
أصل القداسة | ||||
لكن الله الذي يطلب إلينا أن نصير قديسين، هو نفسه الله المتعالي، والذي يسكن في نور لا يُطال، ولا كان لأحد من بني البشر أن رآه، أو يمكن أن يراه: (1تيم 6/16). "الذي له وحده الخلود، ومسكنه نور لا يُقترب منه، وهو الذي لم يره إنسان، ولا يستطيع أن يراه، له الإكرام والعزّة الأبدية. آمين". فلا يمكن لأية خليقة أن تضاهي قداستها القداسة الإلهية. ما يمكن أن تصل إليه، هو أن تقتدي بشيء من هذه القداسة? وعندما نقول "الخلائق"، نعني لا فقط الخلائق التي وجدت إلى الآن، أو التي هي موجودة، بل أيضاً كل خليقة ممكنة. | ||||
تنوع القداسة في شعب الله | ||||
في تعالي الله هذا، وفي محدودية الخلائق تلك، يمكن إيجاد طرق متعددة للقداسة. فَلأنَّ لا أحد يستطيع أن يمتلك كلياً القداسة الإلهية، وجب على الواحد أن يمتلك وجهاً منها، وعلى إنسان آخر وجهاً آخر. فكل إنسان هو فريد من حيث الشخصية والكيان، ومن حيث الرسالة التي أعطيت له لكي يحققها ضمن تصميم الله. ويمكن أن يقال عن تنوع القداسة، ما قال مار بولس عن تنوع المواهب في (1قور 12/7 ? 11). "فكلٌ يتلقّى ما يُظهر الروح لأجل الخير العام: فأحدهم يتلقى من الروح كلام حكمة، والآخر كلام معرفة وفقاً للروح عينه ? إلى ما هنالك ? فهذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزعاً على كل واحد ما يوافقه كما يشاء". القداسة إذن هي في أن يحقق الإنسان كلمة الله، أو أن يحقق كلمة من كلام الله ? فلا يمكن لإنسان واحد أن يحقق كلام الله بأجمعه - لكننا نعلم أن من حقق "كلمة" فقد دخل في الكل، ودخل الكل فيه. | ||||
الدعوة إلى القداسة هي لكل المسيحيين | ||||
وفي ذلك يقول المجمع بإسهاب ( 1 ) : "ولئن كان الجميع في الكنيسة لا يسلكون السبيل عينها فإن الجميع، مع ذلك مدعوون إلى القداسة، وقد نالوا إيماناً يجعلهم متساوين في برّ الله (2بطرس 1/1) ? وإن يكن البعض منهم قد أقيموا بإرادة المسيح، معلمين وخداماً للأسرار، ورعاةً لأجل خير الآخرين، فإن الجميع، مع ذلك متساوون حقاً في الكرامة وفي النشاط المشترك بين جميع المؤمنين في بنيان جسد المسيح ? وهكذا، ففي التنوع بالذات، يؤدّون كلهم الشهادة للوحدة العجيبة السائدة في جسد المسيح? لكي يتمِّم الجميع الوصية الجديدة، وصية المحبة ? وقد قال القديس أغوسطينوس في هذا الموضوع قولاً جميلاً جداً: "لَئِن هالني ما أنا لكم، فما أنا معكم يطمئنني: فَلَكُم، أنا أسقف، ومعكم أنا مسيحي، ذاك اسم للمهمة? وهذا اسم للنعمة? فذاك للتهلكة وهذا للخلاص" ( 2 ) . أمّا الفكرة الواردة عن القداسة في الدستور المجمعي عن الكنيسة، فهي أنّ المسيحي لا يتقدس بالرغم من قيامه بواجباته اليومية الإلزامية? بل إنه يتقدس من خلال هذه الواجبات عينها? وإذا كان مثال القداسة هو الاقتداء بالمسيح والتشبّه به، فإن عمل المسيحي اليومي، وبالتالي عمل الناس جميعهم، يجعلهم شبيهين بالمسيح الذي قال: " أبي يعمل وأنا أعمل أيضاً"? ولا ننسَ أن الرب يسوع في حياته على الأرض عمل بيديه أيضاً وأظهر بذلك أن الواجب اليومي، مهما كان نوعه هو مقدَّس ومقدِّس? | ||||
طبيعة القداسة | ||||
نميز في القداسة بين وجهين متكاملين. الوجه الأول: عمل الله القدوس في الكيان الإنساني? والوجه الثاني: تجاوب الإنسان مع هذا العمل التقديسي المهم - ونسمي الوجه الأول القداسة الكيانية والوجه الثاني القداسة الأدبية. | ||||
آ- القداسة الكيانية | ||||
ما هو مفهوم قداسة الكيان الإنساني؟ هل يعني أنه يمكن تبديل الكيان، كأن ينتقل الإنسان من كيان بشري إلى كيان ملائكي أو إلهي؟! كلا ! لا يمكن ذلك ! هل يمكن أن يقال أن الروح القدس هو نفسه يصبح في الإنسان "روح روحه"؟! كلا. إليكم بعض الاستنتاجات:
فالحياة الجديدة تنساب إلى النفس الذاتية (روما 6/4)، فتتحد مع المسيح وتصير على مثاله في موتٍ شبيه بموته، وبقيامة شبيهة بقيامته (روما 6/5-11)?و الإنسان المولود من الله، يحمل في شخصه زرع الله" (1 يوحنا 3/9). والمعمدون هم مولودون من جديد، من جرم غير فاسد من كلمة الله الحي والأبدي (1 بطرس 1/23)? هذا الزرع الإلهي يسير طريقه فيما تتفجر حيويته الذاتية في قلب الإنسان. فالحياة التي تغلي في عمق أعماق الكيان، لا يمكن إلا أن تتوافر فيه فتعطي أنواعاً عديدة من الأعمال الصالحة، وتنمي في الإنسان معرفة الله" (قولوسي 1/10). روح الله إلهنا (1 قور 6/11)، الذي يحتجب في أعماق كل المقدَّسين، يدفع بالنفس إلى أبعد ? وبما أن الروح يسكن في داخلهم (روما 8/9)، فإنه ينفحهم ويُنعشهم (روما 8/14)، ويدلهم إلى الغاية التي إليها يتوقون. (غلاطية 5/18) هذه الغاية لا يعرفونها بعد، إنما لهم عنها وعود من قِبَل المسيح بالذات، ولهم بين إخوتهم نماذج عاشوا القداسة قبلهم ثم انتقلوا إلى الضفة الأخرى من الحياة في الله، وهم ما يزالون يثبّتون الكنيسة في القداسة. "ففيهم، كما يقول المجمع، يُظهر الله للناس في ضياء ساطع، سرَّ حضوره ووجَهَه? وبهم يكلمنا الله نفسه، ويُرينا آية لملكوته، ويجذبنا إليه بشدة، بقوة تلك السحابة من الشهود التي تحيق بنا"(عبرا 12/1). هذا ولن ننسى إخوتنا في الكنيسة المجاهدة، وكل الناس الطيبين? وجودهم، أفكارهم، أعمالهم، أنينهم، رجاؤهم، كل ذلك يشجعنا ويشدنا إلى أن نرتوي من ماوية جسد المسيح السري? ولا بد أننا اختبرنا يوماً كيف نحن محاطون بصلوات إخواننا القديسين (أحياءً و أمواتاً)، وأن مفعول هذه الصلوات يصل إلينا بنعمة الرب القدوسة ? التي لولاها لما كنا صمدنا في أزمة معيّنة أو لما كنا استطعنا أن نعود بالاهتداء أو التوبة إلى مسار جديد على طريق الإيمان والمودة الإلهية. | ||||
ب - القداسة الأدبية | ||||
يُعبِّر المسيحي عن حياته الداخلية ويعكسها في حياته الواقعية حيث يسير بالتطابق مع الروح القدس الذي يحيا فيه ويُحييه (غلاطية 5/25)، ويجعله مشعِّاً بنور فائق الطبيعة، كما يليق بأبناء النور" (أفسس 5/8). بيد أنّ ميدان الحياة الأدبية مليء بالصراع، صراع داخلي ما بين الروح والجسد? وقد عبّر بولس الرسول عنه جلياً في الرسالة إلى أهل غلاطية عَبْر هذا المقطع الشهير: "الجسد يشتهي ما يخالف الروح، والروح يشتهي ما يخالف الجسد: كلاهما يقاوم الآخر حتى أنكم تعملون ما لا تريدون. ولكن إذا كان الروح يقودكم (الروح القدس) فلستم بحكم الشريعة". "وأمّا أعمال الجسد فإنها ظاهرة، وهي الدعارة والزنى والفجور وعبادة الأوثان والسحر والعداوات والخصام والحسد والسُخْط والمنازعات والشِقاق والتشيّع والحسد والسُكْر والقصْف وما أشبه? أنبّهكم كما نبّهتكم من قبل، أن الذين يعملون مثل هذه الأعمال لا يرثون ملكوت الله. أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكَرَم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف. وهذه الأشياء ما من شريعة تتعّرض لها. إن الذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا الجسد وما فيه من أهواء وشهوات". يبدو واضحاً من هذا النص، أن طريق القداسة يمر بأعمال الروح ? وهنا لا بد من التساؤل عن أي روح يتكلم النص ? هل عن روح الإنسان، أم عن روح الله، الروح القدس؟!? إنه يتكلم تارة عن روح الإنسان وتارة عن روح الله ? فروح الله أُعطي للإنسان لكي تتم الملاءمة بين الروحين، فيعملا معاً عمل الله. فالقداسة هي الطريقة التي نعيش فيها روحية التبني الإلهي ? وكلمة "التبني" هي للتعبير بصيغة قانونية عن حالة البنوّة الإنسانية في الله، والتي تميزها عن بنوة ابن الله الوحيد يسوع المسيح. إنها تريد أن تُفصح عن حقيقة راهنة في الدين المسيحي وهي أن المؤمن المسيحي، وإن لم يكن مساوياً لابن الله في الطبيعة، فإن باستطاعته أن يعمل أعمال الله? وهذه ميزة تضاف إلى الميزات الإنسانية الأخرى كالفكر والمحبة وتزيدنا تبحّراً في سر الإنسان بالذات: "ما الإنسان حتى تذكره، وابن البشر حتى تفتقده، نقصتة عن الملائكة قليلاً، وكللته بالمجد والكرامة".(مزمور 8) التبني الإلهي هو الذي يكّون فينا المجد والكرامة، وهو الذي يجعلنا نسمي الله أبانا الإلهي? "أيها الآب إذ لا يزال الروح يشهد مع أرواحنا أننا أبناء الله" (روما 8/15). وهذه القداسة تسهم في المجتمع الأرضي بالذات، وفي أن تزيد أوضاع الوجود إنسانية? وإنه لمن الواضح أنه إذا كانت المحبة جِدّية، وإذا كانت الأخلاق سائرة بقوة الروح حسب تعاليم العظة على الجبل، فإن الناس يصلون بسرعة إلى نوعية حياة أكثر إنسانية. فالنضوج الإنساني ليس من عمل الإنسان وحده، إنه أصلاً من عمل الروح? إذ لا نضوج من دون المحبة، والحال "إن محبة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا" (روما 5/5). وحدها المحبة تقيس الإنسان تجاه ذاته وتجاه الآخرين، وتُريه مكانته عند الله. "تُقيس دون أن تُقيس"، لأنه كما يقول القديس يرنردوس: "مقياس المحبة أنها بلا مقياس". لكن المحبة تتجلى أكثر ما تتجلى في حمل الصليب وراء المسيح، "إذ ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو3/16) عمل الروح إذن، يقودنا إلى التشبه بالمسيح. وفي هذا تكمن قداستنا. أن تكون حياتنا مطابقة لحياة المسيح وأخلاقنا لأخلاقه وتصرفاتنا لتصرفاته. | ||||
اتّباع المسيح | ||||
هناك تعبير في قاموس الحياة الروحية عنوانه: "اتباع يسوع المسيح" شدد عليه الآباء القديسون جميعهم. ولا يمكن التغاضي عنه عندما نتكلم عن القداسة، الطريقة الفضلى للتشبه بالمسيح. فما هو هذا الاتباع وكيف يكون؟! ففي ذلك يقول أحد الطوباويين: "اتباع المسيح هو اللحاق به إلى حيث يذهب، والتمثل به في كل ما يعمل، وعدم مفارقته".
| ||||
وسائل القداسة | ||||
هل من وسائل عملية لبلوغ القداسة؟ أننا بعد كل ما ذكرنا عن قدسية الواجب اليومي وتقديسه، وعن حمل الصليب والتشبه بالمسيح، وتقبل نعمة حضور الروح القدس، فهل يبقى من أمور يجب التشديد عليها؟ إذا طالعنا النص المجمعي في القداسة ( 4 ) نجد أن الآباء يذكرون سبع وسائل تساعد على بلوغ القداسة? لكننا قبل أن نبدأ بتعدادها نقول أن لا قيمة لهذه الوسائل إن لم تكن منتشية بالمحبة ومنتعشة بها (عنيت المحبة الإلهية). وإن لم تنطلق منها وتعود إليها وتقود ? وهذه هي الوسائل السبع: 1- قراءة الكتاب المقدس. 2- تحقيق الإرادة الإلهية. 3- المشاركة بالأسرار. 4- الصلاة (الصلاة التأملية خاصة). 5- التخّلي (أو الكفر بالذات). 6- خدمة الآخرين خدمة أخوية وجدية. 7- ممارسة الفضائل. إلى هذه الوسائل يتكلم المجمع عن المشورات الإنجيلية. لسنا نتوقف على هذا كله إنما ندلي حوله بثلاث ملاحظات: الأولى عن قراءة الكتاب المقدس والثانية عن تحقيق الإرادة الإلهية والثالثة عن المشورات الإنجيلية | ||||
1) قراءة الكتاب المقدس | ||||
إنها المرة الأولى التي توضع قراءة الكتاب المقدس في نص مجمعي رسمي وتُعرض كوسيلة تقديس ذاتية مميزة? والغاية من هذه القراءة المتواترة أن نستوحي الروح الذي أوحى الكلمات الكتابية ، وننظر إلى هذه بأنها حاملة حضوره الحي ومتحدثة عن عمله في قلب العالم والكنيسة? فكلمة الله هي مدرسة في القداسة والكتاب المقدس المفتوح أمامنا هو كالأيقونة الشرقية، تجعل الروح القدس فينا يخاطب الروح الذي أمامنا. | ||||
2) تحقيق الإرادة الإلهية | ||||
تحقيق إرادة الله هو خلاصة وملخَّص كل وسائل القداسة. والمسيحي يجب أن يصلي ويتخلّى ويمارس الفضائل لأن الله نفسه يريد منه ذلك? التفتيش عن إرادة الله هو المعيار لقراءة الكتاب المقدس والهدف الأول للمشاركة بالأسرار. تيمُّناً بالمسيح الذي قال حسب الرسالة إلى العبرانيين: "تقادم وذبائح لم تُرِدْ ? بل كوَّنتَ لي جسداً"، فقلت: "ها أنذا آت لأعمل بمشيئتك يا الله" (عبر : 10 / 7) يبقى السؤال العادي: كيف يمكن أن نتعرف على إرادة الله حتى نحققها؟!? فعلى سبيل الاختصار نقدم جواب المسيح موجزاً بهذه الكلمة من إنجيل يوحنا: "من أحبني حفظ وصاياي". آخذين بعين الاعتبار أن كلمة وصايا تؤخذ بمعنيين: بالمعنى الشامل حيث أن كلمة الله تعني كل ما جاء به الله في الكتاب المقدس والكنيسة، وبالمعنى الحصري أي ما يطلبه الله منا، والذي يتلخص بالوصايا العشر ثم بالوصيتين الكبريين : محبة الله ومحبة القريب. | ||||
3) المشورات الإنجيلية | ||||
يعلّم المجمع أنه لا يكون كمال في القداسة إذا لم يراعِ الشخص روح المشورات الإنجيلية. وهذه المشورات على نوعين: الأول: وهو الأعمال الحسنة بشكل عام? وعلى هذا المستوى قيمة المشورات تفوق قيمة الوصايا ? والنوع الثاني: هو ما يسمى بالمشورات الإنجيلية بحصر المعنى وتُلخَّص بثلاث: التخلي عن الخيور وطهارة القلب والحواس والاتضاع. هذه المشورات التي يَعِدُ الرهبانُ بأن يسيروا عليها من خلال قيامهم بالنذورات الثلاثة، تعتبر الطريق المؤدي إلى الكمال المسيحي? فالمسيحيون جميعهم مدعوون إلى الاقتراب من روحها وممارسة ما يمكن ممارسته، مع العلم أن أساس هذه الممارسة وحيويتها ليسا في عمل التقشف والإماتة بالذات، بل بالمحبة الدافعة إليهما والناتجة عنهما? | ||||
خـاتمة | ||||
اليوم أكثر من أي وقت مضى، يتوقف تجديد العالم على القديسين. " القديس هو إنسان اتحد بالله فأصبح وإياه واحداً، يتوسّل إلى الله، يكلم لله، فيطيعه الله. إنه إنسان يحمل بيده كل قدرات الله. إنه إنسان يُحرك الكون باتحاده مع "المعلم" سيد الكائنات كلها". "القديسون هم أقدر الناس على الأرض. يجتذبون الجميع إليهم لأن عندهم المحبة، ونور الله الروح القدس". | ||||
الحواشي | ||||
1 - دستور عقائدي في الكنيسة، العلمانيون، عدد: 3 2 - عظة القديس أغوسطينوس رقم 340/ 1 ? (آباء لاتين 38/ 1483) 3 - الطوباوي الأب انطوان شفرييه كتاب التلميذ الحقيقي ص 340-341 4 - راجع دستور عقائدي في الكنيسة، الفصل الخامس. |