Skip to Content

البعد الجنسي بين التبتّل و الزواج - الأب فاضل سيداروس اليسوعي

 


























































































البعد الجنسي بين التبتّل والزواج

 
 

إن العلاقة التي تربط الحياة الجنسية بحياة التكريس طالما شغلت علماء النفس، لا بل الروحانيين أنفسهم، ولا سيما المرشدين الروحيين منهم، وكذلك كل مكرّس . ذلك بأن الحياة الجنسيّة هي من صميم حياة الشخص ،إذا فهمناها على معناها الأصلي، أي إنها بِنية أساسية لحياة الشخص .إنّ الله خلق الإنسان " ذكراً "و" أنثى"؛ فهذه هي إذاً بنية أساسية ونمط في الحياة ، يطبع الشخص في مواقف حياته، وفي أسلوب علاقاته ومعاملاته وتصرّفاته وأفعاله وأقواله وأفكاره ، بل وحبّه?فلا شيء في الوجود يخرج عن إطار الجنس لكونه نمط حياة يعيشه الرجل بصفته رجلاً، وتعيشه المرأة بصفتها امرأة ،كل منهما بطريقة مختلفة تعود أساساً إلى تميّزهما الجنسي. فلا نفهم إذاً الجنس ولا الحياة الجنسية بمعناها الحصري الضيّق، بل بهذا المعنى الشامل الواسع.


وهذا "البعد الجنسي" sexualité، أو " الحب الجنسي" amour sexuéيختلف اختلافاً كليّاً عن"البعد التناسلي " génitalité. فبقدر ما يضحّي المكرّس بممارسة البعد التناسلي، إلاّ أنه لا يضحّي بالبعد الجنسي الذي يتميّز عن البعد التناسلي في أنه نمط حياتيّ يعيشه، ولا وظيفة يؤديها. يقدر الإنسان أن يؤدي الوظيفة التناسلية- كما يفعل المتزوجون ? أو لا يؤديها ? كما يفعل المتبتّلون-. أما نمط الحياة الذي يمثّله البعد الجنسي، فهو موضوع آخر ، يعيشه المتزوجون والمتبتّلون على حدٍ سواء، وإن اختلفت طريقة العيش هذه : المتزوج من خلال حياة زوجية تناسلية عائلية، والمتبتّل من خلال تكريس حياته الوجدانية وطاقاته التناسلية لشخص المسيح، في خدمة إخوته البشر ومحبته لهم محبة شاملة، ليحقق من الآن ملكوت الآب حيث الحب لا يقترن بالتناسل.


أضف إلى ذلك، في سبيل توضيح علاقة التكريس بالجنس، أنّ حياة التكريس تتضمن ? أكثر ما تتضمن ? كل ما في الشخص من طاقات الحب والرغبة والوجدان ، شأنها شأن الحياة الزوجية ، بيد أنّ الخدمة الكهنوتية ? على سبيل المقارنة ? تتضمن ? أكثر ما تتضمن ? طاقات الإرادة والخدمة والبذل. ولا غرابة أن يكون نذر التبتّل، وهو الوحيد بين النذور الرهبانية الثلاثة، يعتمد على دعوة واضحة صريحة وجّهها الرب يسوع، في حين أنّ النذرَيْن الآخرين مبنيّان على دعوة ضمنيّة أكثر منها صراحة. فهذه الدعوة الصريحة إشارة جليّة إلى التطابق بين حياة التكريس الكامل لشخص المسيح والحياة الجنسية، فكلتاهما تُسخِّران وتجنّدان جميع طاقات الحب والرغبة والوجدان.


وسنُمحور حديثنا الروحي اللاهوتي هذا ، كلازمة سنعود إليها مراراً، على مفهوم "العلامة "، استناداً منّا إلى تعريف المجمع الفاتيكاني الثاني للحياة الرهبانية، وقد اعتبرها "هبة" من الله لكنيسته ? وهذه السِّمة هي بمثابة بُعد الحياة الرهبانية الرأسي ? و"علامة " تؤديها الحياة الرهبانية إلى الكنيسة والعالم - وهذه السِّمة هي بمثابة بُعد الحياة الرهبانية الأفقي ? وسنُركّز كلامنا على صفة "العلامة "؛ ففي مقارنتنا المستمرة بين الحياة الرهبانية التبتّلية والحياة الزوجية، سنُبيّن في كل خطوة من خطوات تحليلنا ، أنّ كلتيهما علامة ، الواحدة للأخرى . وفي سبيل ذلك، سنُبرز مميّزات الحياة الجنسية والحياة التناسلية ، وذلك على مستويَيْن متكاملَين : المستوى الأنثروبولوجي الذي يتّسم به البعد الجنسي ، والمستوى الزمني المكاني الذي يتّسم به البعد التناسلي .


البعد الجنسي ومميِّزاته الأنثروبولوجية


إن "الحب الجنسيّ" ? أي الحب المتسم بالبعد الجنسي, المختلف تماماً عن البعد التناسلي, كما فهمناه, وكما سنستخدمه من الآن فصاعداً ? يتميّز بخمس سمات إنسانية توضّح كيف أن حب المتبتّلين الجنسي هو "علامة" للمتزوجين, وكيف أن حب المتزوجين الجنسي هو "علامة" للمتبتلين.


الحبّ الجنسي بين الفرادة والتبادل


إن أساس الحب الجنسي هو كلمة الله يوم خلق فيه الإنسان:" لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا. ذكراً وأنثى خلقهم". فأساس البعد الجنسي يكمن في أنّ الإنسان مخلوق ذكراً أو أنثى؛ وهذه حقيقة شاملة تشمل جميع البشر بلا استثناء , غير أنّ المتبتّلين يعيشون هذا الوضع البشري بطريقة, والمتزوجين بطريقة أخرى.
فالمتبتّلون, على خلاف المتزوجين, يعيشون حياتهم الجنسيّة, أو حبهم الجنسي, من دون أن يُشاركوا فيه شريكاً أو شريكة.وينجم عن هذا الوضع أنهم علامة فرادة الشخص, المختلف تماماً عن سائر الأشخاص والمتميِّز عنهم كل التميُّز.وهذه الفرادة قد أرادها الله للإنسان, فلم يخلق شخصين متشابهين, بل لكلِّ شخص خصوصيّته المميّزة الفريدة في نوعها والتي لا تتكرر على الإطلاق, ففي ذلك تكمن قدسيّة الشخص. والمتبتلون هم علامة الوَحْشَة (أي العُزلة المعنوية) أيضاً, بمعنى أن كلَّ شخص يختبر في عمق حياته, ولو للحظات قصيرة, حقيقة إنسانية مُرّة, وهي أنه وحيد, وذلك مهما كانت علاقاته ونوعيتها وعمقها, تلك الوحدة المرموزة في شخص آدم قبل أن تأتي حواء إلى الوجود, والتي لم تتلاشَ قطّ في حياة الإنسان, لأنّها سِمة من سِمات وجوده في الكون. والمتزوِّجون يختبرونها في حياتهم الزوجيّة, على مضض. غير أنّ وضع المتبتّلين يؤكد لهم أنّ وحشة القلب هذه والشعور بالوحدة هما موقف إنساني يجتازه كلّ إنسان, بل ولهما معنى إنسانيّ, بالرغم من أنّهما قد يؤديان إلى الانغلاق على الذات, وإلى الانعزال عن الآخرين ولا سيّما عن شريك أو شريكة الحياة. فالمتبتّلون يُظهرون إذاً للمتزوجين كلتا العلامتين, الفرادة والوحشة, من خلال اختيارهم عدم الزواج.


والمتزوجون, من جهتهم, هم للمتبتّلين علامة التبادل, ذلك بأنّ حياتهم الجنسية حياة شراكة مع قرين أو قرينة, فيتبادل الزوجان كل ما في حياتهما من حب وعاطفة وفكر ومسؤولية وممتلكات... فكلّ ما للواحد هو للآخر, وكلّ ما يتميّز به الواحد يرغب في أن يبادله مع الآخر، فلا يحتفظ لذاته بما يمكنه أن يشارك فيه الآخر. وبذلك , فإن المتزوجين يذكّرون المتبتّلين بأنّ الإنسان هو, كياناً وأساساً وجوهراً, تبادل ومقابلة, وشراكة واتحاد؛ وذلك على نقيض الاكتفاء الذاتيّ والاحتفاظ بكل شيء للذات. فما يتمّ من حياة تبادل تُعاش في الزواج يومياً , يُذكّر المتبتّلين بأنهم مدعوون, هم أيضاً, إلى أن يختبروا التبادل في حياتهم المكرَّسة للربّ في خدمة البشر.


وتجدر الملاحظة أنّ حياة التكريس وحياة الزواج تُحققان معاً صورة الثالوث ومثاله, ذلك بأن الأقانيم الثلاثة يكوِّنون في آن فرادة كلّ أقنوم وتبادلهم المُثلّث. فالمتبتلون والمتزوجون هم, بعضهم لبعض, علامة الثالوث:


 المتبتلون هم علامة فرادة كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة, والمتزوجون هم علامة التبادل في ما بينهم, في تكامل لا يتجزأ بين الفرادة والتبادل.


الحب الجنسي بين المجانية والحرية


إن الحب البشري مدعوُّ إلى أن يُمارَس على صورة الله كمثاله, فيتحلّى مِثل حب الله بمجّانيته وحريته. فحب الله المُطلق يتميز بهاتين الصفتين المطلقتين, فيصبح بالتالي مقياساً ومعياراً للحب البشري الجنسيّ. فكيف تعيش فئتا المتبتلين والمتزوجين هذين البعدين, وكيف تصبحان الواحدة للأخرى علامة ؟


إنّ المتبتلين, من منطلق تضحيتهم بالحب التناسليّ, يُجسِّدون للمتزوجين سِمتي المجانية والحرية, لأنهم ? بموجب تبتلهم ? لايقعون في ما قد يهدّد الحب الزوجي من روح نفعية ومصلحة شخصية وشهوة أنانية, وإن لم يكونوا بمأمن من هذه الأخطار. فمحبتهم للبشر موسومة بالحب المجانيّ, لأنهم يحبونهم لأجل ذواتهم, لا لأجل إرضاء نزعات شخصية, أو قل إنّهم مدعوون إلى ذلك بموجب تبتلهم المنفتح على الجميع انفتاحاً شاملاً.والمجانية ترادف الحرية, إذا اعتبرنا أنّ الروح النفعية مناهضة تماماً للروح المجانية, لأنها نوع من الاستعباد للذات, ففقدان الحرية الحقيقية. فالمتبتلون إذاً يُذكّرون المتزوجين , لا بالكلام بل بمَثل حياتهم, بأن جميع البشر مدعوون إلى اكتساب روح المجانية في الحب, والحرية تجاه الذات.


والمتزوجون, من جهتهم, يعيشون في خِضمّ حياتهم الزوجية الروح المجانية التي تتجسّد في حياتهم اليومية الرتيبة, ويحبّون بعضهم بعضاً ويحبّون أولادهم من أجل ذواتهم ? لا من أجل الذات المنغلقة على نفسها-, ويُظهرون هكذا تحررهم من أنانيتهم؛ فهم أيضاً يصبحون للمتبتلين علامة ومثلاً يُحتذى به.


والفرق بين الفئتين قد يكمن في كون المتبتلين "علامة" بموجب فعل اختيارهم التبتل المجاني الحر, وفي كون المتزوجين "علامة" بموجب ممارستهم اليومية الحب المجاني الحرّ عينه. وفي ذلك تكامل وتعاضد, ذلك لأن كل فئة تستدعي الأخرى.


وتأخذ هذه الروح المجانية الحرة أشكالاً متعددة, نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، ثلاثة أوجه متكاملة.


الحب الجنسي بين الحاجة والرغبة


من مقومات الحب البشري "الحاجة" إلى الآخر, حاجة ينبغي لها أن تتجاوز نفسها وتتعدى ما فيها من ملامح أنانية, لتتسامى في "الرغبة" في الآخر, رغبة تتّسم بالنظر إلى الآخر من أجل ذاته, لا من أجل إرضاء النفس. ولنضرب مَثلاً يوضح لنا ذلك, وهو مَثَل الطفل الرضيع الذي يحتاج إلى أمه, ولاسيما إلى ثدييها, احتياجاً حيوياً, حتى إنه لا يستطيع إطلاقاً أن يظلّ على قيد الحياة من دونها, فيرتبط إذاً بها ارتباط "الحاجة". وما إن يكبر وينمو ويستقلّ عن أمه شيئاً فشيئاً, حتى تتحول حاجته هذه إلى "رغبة" في أمه, من أجل ذاتها, لا من أجل احتياجه الحيوي البيولوجي إليها, ويظهر هذا التحوّل بوجه خاص في ما بين الثالثة والخامسة, في ما يسميه العلماء النفسيون ((عقدة أوديب)) للذكور, و((عقدة إلِكْترا)) للإناث. ولنحاول أن نفهم بُعدي الحبّ البشري هذين, حب الحاجة وحب الرغبة, في ما نحن بصدده.


فالحب الجنسي بين المتزوجين, ولا سيّما حبهما التناسلي, مهدّد دائماً باعتبار الآخر "شيئاً" يُرضي احتياج الذات إليه, وذلك على حساب "الرغبة" في الآخر التي تعتبره "شخصاً" مرغوباً فيه من أجل ذاته. فكم من المتزوجين يبحثون ? بوعي أو بلا وعي ? عن إشباع حاجتهم إلى القرينة أو القرين, فيستخدمونه في سبيل ذلك, ظانّين ومتوهّمين أنهم يحبونه من أجل ذاته. فتكمن علامة المتبتّلين بالذات في أنهم, بموجب تبتّلهم وتضحيتهم بالحب الزوجي والحب التناسلي, يُذكِّرون المتزوجين بضرورة عدم حصر حبهم في مستوى "الحاجة", بل بضرورة فتحه على مستوى "الرغبة", وعلى صعيد الحب الجنسي المجاني الحر.


وتكملة لذلك, فإن المتزوجين يذكّرون المتبتلين بأنهم ليسوا أشخاصاً روحانيين وحسب, بل هم أشخاص ذو حاجات من أنواع مختلفة أيضاً. إن خطر روحنة الأمور ليس وهمياً, وصَدَق قول الفيلسوف الروحاني المسيحي بسكال :"من أراد أن يقلّد الملاك, وقع في البهيميّة".فالمتزوِّجون علامة الروح الواقعية.


الحبّ الجنسيّ بين الاقتبال والبذل- التضحية


يتّسم كل حبّ بشري بسِمتين: إنه "اقتبال" من الآخر, على صورة ابن الله الذي يقتبل من الآب كلّ شيء, فشخصه اقتبال مطلق, يقتبل كلّ شيء من أبيه. وعليه, فإن الحبّ البشري يتّصف بصفة هذا الاقتبال, لأن الإنسان على صورة الله كمثاله. كلّ إنسان يقتبل إذاً من غيره ما هو عليه وما يمتلكه: الحياة من الوالدين, التربية من المُربّين, القوت من العاملين, الأمانة من الدولة, الإيمان من الكنيسة... والحياة كلّها تحت شارة الاقتبال. ومَن ادعى أنه هو المصدر, أنكر الواقع البشريّ, كما أنكر دعامة من دعائم إيمانه: "ما لك إن لم تنَله ؟".


ويتّصف كلّ حب بشري بـ"البذل" و"التضحية" أيضاً, على صورة حب يسوع المسيح نفسه الذي قال وحقّق قوله إلى أقصى الحدود:"ما من حبٍّ أعظم من حبِّ مَن يبذل حياته في سبيل أحبّائه". فمن لا يذهب في حبّه إلى هذه الأعماق, يعيش حبّاً أنانياً, وغير مجاني, وغير حر.


يعيش المتبتّلون حبهم المبني على هاتين الصفتين من خلال فعل اقتبالهم دعوة الله لهم, واختيارهم الله تلبية لدعوته. ويعيش المتزوجون الحب عينه من خلال حياتهم الزوجية والعائلية اليومية, فيصبحون للمتبتلين علامة الاقتبال والبذل والتضحية في الحب, في بُعده الرتيب, بالأمانة اليومية. فهؤلاء هم علامة مسيرة حياتية, وأولئك علامة لحظة مصيرية جذرية.


الحب الجنسي والخدمة


كلّ خدمة يقوم بها أي إنسان هي في آن واحد تعبير عن الحب وثمرته:"يا سمعان بن يونا أتحبني؟...ارع خرافي".فما من حبّ بشري حقيقي بدون خدمة المحبوب, وما من خدمة حقيقية إن لم تنبع من الحب ولم تتأصل فيه.


فالمتبتّلون , باختيارهم خدمة الرب والبشر من منطلق اختيارهم حب الله والبشر, يصبحون للمتزوجين علامة اتحاد الحب بالخدمة اتحاداً لا يقبل مبدئياً الانفصام. وأما المتزوجون, وبممارستهم اليومية الحب والخدمة, فيصبحون للمتبتلين علامة الحب عينه الذي لا يقبل فعلياً الانفصام.


الخلاصة


هذه سِمات خمس للحب الجنسي, وهي سِمات لا تنحصر في فئة بشرية, كما أنها لا تميِّز فئة عن فئة, فهي سِمات أنثروبولوجية شاملة تشمل جميع البشر. وما يختلف في فئة أو أخرى هو طريقة أدائها هذه الصفات العامة؛ وهذا الاختلاف هو الذي سمح لنا بتوضيح اختلاف نوعية العلامة التي تذكّر بها هذه الفئة أو تلك, أي المتبتلون أو المتزوجون. إن الحب الجنسي البشري واحد جوهراً , ولكنه متميِّز أسلوباً كما ارتأى لنا ذلك من خلال جميع خطوات تحليلنا.


البعد التناسلي ومميزاته الزمنية المكانية


في حديثنا عن البعد التناسلي, يختلف الوضع عمّا هو في البعد الجنسي, لأن فئة المتبتلين لا تعيش الحب التناسلي, بل تضحي به. فالمتبتلون وحدهم يصبحون. من جراء ذلك, "علامة" للمتزوجين, بيد أن الحديث عن الحب الجنسي الشامل لجميع البشر قد أوضح لنا تبادلاً في العلامة, إذ إن الجميع يبيّن لنا أنهم "علامة"؛ وأما هنا, فالمتبتلون وحدهم هم "علامة"للمتزوجين.


يجب الإشارة إلى أن الحديث عن البعد التناسلي سيجرّنا إلى إدخال عنصري الزمان والمكان في تحليلنا, لأنه يخضع لهما في كل ممارساته, كما سيتضح لنا.


وسنذكر هنا أيضاً خمس مميزات متكاملة يتضمنها البعد التناسلي, وقد يكون هناك سمات أخرى, إلا أننا سنكتفي بهذه, وهي الأكثر بروزاً.


البعد التناسلي مكانياً بين الانصهارية والمسافة


تصبو الممارسة التناسلية إلى الاتحاد بين الزوجين اتحاداً قد يصل بهما إلى حدِّ الرغبة في الانصهار, رأى فيها علماء النفس حنيناً إلى أحشاء الأمّ, واشتياقاً إلى العودة إليها بسبب الانصهار الكامل بين الجنين وأمّه. وإن هذه الرغبة الانصهارية هي بالفعل, عند الراشدين, رمز لامتصاص أحد الطرفين شخصية الطرف الآخر, ولتلاشي شخصية أحدهما في الآخر. لذلك تحتّم على الزوجين أن يتيقظا إلى خطورة هذا الموقف.


وهنا يتوسط وضع المتبتّلين الذين, بموجب تضحيتهم بالحبّ التناسلي, يذّكرون المتزوجين بضرورة المسافة في العلاقة الزوجية ?"مسافة رمية حجر" كما يقول الإنجيل ? شأنها في ذلك شأن المسافة الضرورية في العلاقة بين الله والإنسان, وكذلك بين أيّ إنسان وأخيه الإنسان, مهما اشتدت الرغبة في الاتحاد، لا بل في سبيل تحقيق هذا الاتحاد مع احترام فرادة الشخص وكرامته وقدسيته.


البعد التناسلي مكانياً بين الخاص والشامل


تتضمن الممارسة التناسلية الرغبة في الاتحاد بالشامل انطلاقاً من الخاصّ. ففي حميمية العلاقة التناسلية, تنشأ الرغبة في حميمية العلاقة بما يتعدى العلاقة الخاصّة لتشمل أكثر من القرين أو القرينة. وهذا الوهم هو بالفعل أمر مستحيل التحقيق؛ وهذه الاستحالة, إن دلت على شيء فعلى عجز دفين في صميم الكيان البشري.


إلاّ أن المتبتّلين, لكونهم يرغبون في علاقة شاملة من دون المرور بعلاقة منفردة بإنسان واحد مميّز, يصبحون للمتزوجين علامة الاتحاد الشامل والرغبة فيه. إذ إنهم يجسّدون نمطاً للشراكة بين البشر مختلفاً كل الاختلاف عن نمط الاتحاد الحميمي بشخص مميَّز وبعلاقة خاصّة, لأن هذه الشراكة غير مبنية على الممارسة التناسلية الخاصة وحسب, بل على الحب المجاني الشامل, والحب المقرون بالبذل والتضحية والخدمة الشاملة.


البعد التناسلي مكانياً بين النسبيّ والمطلق


يبغي المتزوجون الاتحاد بالمطلق أيضاً, وذلك من خلال العلاقة التناسلية, وهي، في حدّ ذاها, خاصة وبالتالي نسبية. ولكنّهم لا يُوفَّّقون في بُغيتهم هذه, فهم يختبرون أن العلاقة التناسلية موسومة بهذا العجز, لأنهم يشعرون بالعزلة بعد الممارسة التناسلية. فالبعد التناسلي, وإن كان، في حد ذاته, اختباراً إنسانياً بتمام معنى الكلمة, إلا أنه فعل إنساني نسبي، ليس بمقدوره, بأي حال من الأحوال, أن يستنفد رغبة الإنسان في إدراك المطلق اللانهائي. فالعلاقة التناسلية موسومة بالنسبية , وعاجزة عن احتواء المكان والسيطرة عليه, والمكان هو الآخر موسوم بالنسبية الكلية عينها.


ويأتي المتبتّلون بجذرية اختيارهم شخص المسيح, فيصبحون للمتزوجين علامة البحث عن المطلق وتحقيقه في فعل تبتّلهم ومن خلاله, وإن اكتمل هذا التحقيق في الأبدية. فما يعجز البعد التناسلي عن تحقيقه، يستبقه بُعد التبتل. وليس من باب المصادفة أنّ أروع ما كُتب في الحب الزوجي لا يعود إلى أناس متزوجين, بل إلى متبتلين متصوفين عبّروا عن أغوار "الزفاف الروحي" الذي يجمعهم ويوحِّدهم بالله المطلق.


البعد التناسلي زمنياً بين العَرَض والديمومة


يبحث البعد التناسلي عن الاتحاد الكامل والنهائي في اللحظة الحاضرة, فيرغب في ديمومة اللحظة, حتى إن الشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين قد هتف في إحدى لحظات نشوة عاطفية قوية:"أيّها الزمن , أوقف سيرك", رغبة منه في ديمومة لحظة النشوة هذه. ولكن هذه الرغبة خيالية ووهمية, لأن الزمن لا يتوقف عن السير, واللحظة لا تنفك أن تنقضي. وفي النهاية, يكون هذا العجز علامة عَرَض CONTINGENCE الحياة التناسلية في كيانها وجوهرها؛ فهي موسومة بالنقص وعدم الإرضاء, بل إنها آيلة إلى الزوال الكامل مع انقضاء الزمن, بيد أن الحب الجنسي, بالمعنى الدقيق الذي حددناه سابقاً, مدعو إلى الدوام.


والمتبتّلون الذين يضحون باللحظة, ولا سيما بالمتعة اللحظية, يصبحون علامة الديمومة, لا ديمومة ممارسة تناسلية هي لحظية وفانية وحسب, بل ديمومة فرح قرباني, ذلك بأنهم يقدِّمون حياتهم كلّها قرباناً إلى الله. فضلاً عن كونهم "مخصِيِّين من أجل الملكوت" , فيستبقون بالتالي الأبدية التي تتسامى عن الزمن وعن اللحظة, بل وتُضفي معنىً على الزمن البشري، وإن كان ذاهباً إلى الانقضاء والزوال، شأنه شأن البعد التناسليّ, على خلاف البُعد الجنسي. ففي الأبدية تصبح اللحظة الحاضرة أبدية لانهائية, وتحوي في طيّاتها الأبدية اللانهائية.


البُعد التناسلي زمنياً بين الحياة والموت


قال الفيلسوف الوجودي المسيحي غبريال مارسيل: "يكمن الحبّ لشخص في إمكانية القول له:"لن تموت"". فالحب البشري, وهو على صورة الحبّ الإلهي, متجه نحو الحياة, بل وملء الحياة :"جئتُ لتكون لهم الحياة، وتفيض فيهم". وما يلفت النظر أن البعد التناسلي, في أسمى معانيه ونتائجه, أي في إنجاب أبناء للحياة, يؤدي بهم, في نهاية المسار إلى الموت, في حين أن البكتريا لا تموت, بل تتكاثر بلا موت في أُفقها وهذا الأمر لَغريب كل الغرابة,وإن دلّ على شيء فعلى عدم اكتمال البعد التناسلي في كينونته وجوهره. وبصريح العبارة، فإن البعد التناسلي موسوم بالنقصان وعدم الاكتمال بوجه جذري, لأنه يُسيِّر الأحياء إلى الموت.


وعلى نقيض ذلك تماماً, يُعتبر المتبتلون أشخاصاً لا يمارسون الأبوّة أو الأمومة الجسدية بالتناسل، بل الأبوّة أو الأمومة أو الأخوّة الروحية،لأنهم يضحون بالبعد التناسلي في سبيل البعد الروحي. وعليه، فإنهم يصبحون علامة "الحبّ-المُخصِب ? المؤدِّي ? إلى ? الحياة", لا إلى الموت. وقد يُلقي لنا ذلك ضوءاً على اختيار يسوع للتبتُّل فذاك الذي هو "حياة العالم" , والذي أتي إليه لتفيض الحياة في البشر, لم يشأ أن يُنجب أبناء يتجهون إلى الموت, بل إلى ملء الحياة الفيّاضة. وما اختيار المتبتلين الروح، لا الجسد، سوى تطابقهم مع اختيار المسيح, وهو أوّل "مخصِيّ من أجل الملكوت", ملكوت ملء الحياة, حياة الآب في الروح.


الخلاصة


تبيّن لنا، من خلال تحليلنا خصائص البعد التناسلي الزمنية المكانية, مدى تأصُّله في الحياة البشرية الزمنية المكانية. وهذا بالذات ما يضحِّي به المتبتلون, فيصبحون للمتزوجين"علامة" مسيرة البُعد التناسلي نحو الزوال, ليدوم الحبّ وحده, لأنّ "الله محبّة".


الخاتمة


تستبق حياة التكريس وضع البشرية النهائيّ. فإن بدت لنا "علامة زوال البُعد التناسليّ", فليست تلك الكلمة كلمتها الأخيرة, لأنها في آخر الأمر "علامة ديمومة الحبّ الجنسيّ". كما فهمناه طيلة مسيرتنا. فإن "الإيرُوس" ? أي البعد التناسلي ? آيل إلى الزوال, وأما "الأغابي" ? أي بعد الحبّ الجنسيّ - فمتّجه إلى ديمومة ملء الحياة الفياضة.


والجدير بالملاحظة أنّ هذه العلامة المزدوجة هي جدليّة, بمعنى أن تضحية "البُعد التناسلي" تتحوّل وتتبدّل إلى فيض "الحب الجنسي". فمسيرتنا أوضحت ما يمكننا أن نسميه "الانقلاب الجدلي"، بمعنى أن تحليلنا استهلّ بإظهار خصائص"الحبّ الجنسيّ", وهو غاية الحرمان الاختياري من "البعد التناسلي"، وكذلك هو دافعه، وقد أظهرته الخطوة الثانية من تحليلنا. وبتعبير آخر, فإن فيض الحياة الذي يتضمنه البعد الجنسي يجعل بعض الأشخاص يضحون بالبعد التناسلي حتّى يتسنّى للحياة أن تفيض. وهذا الانقلاب الجـدلي كتابيّ، فالمــسيح "أفرغ ذاته"(باليونانية :ékénosen فــحوّل الآب ذلك، إذ إنه" رفعه" hyperupso ، بحسب تعبير نشيد الرسالة إلى أهل فيليبي.






المراجع





 

  مستل من مجلة المشرق السنة السابعة والسبعون ، كانون الثاني ? حزيران 2003. تشكر جمعية التعليم المسيحي الأب كميل حشيمة مدير دار المشرق لموافقته على نشر المقالة



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +