أَبرِقْ بِبُروقِكَ و شَتًّتْهم أَرسِلْ سِهامَكَ و بَدَدْهم (مز 144 /6)
الخير صفاته و أعماقه
الخير
صفاته وأعماقه
ليس الخير عملاً مفرداً أو طارئاً، إنما هو حياة:
فالشخص الرحيم مثلاً، ليس هو الذى تظهر رحمته أحياناً فى حادث معين. إنما الرحيم هو الذى تتصف حياته كلها بالرحمة. وتظهر الرحمة فى كل أعماله وفى كل معاملاته، وفى أقواله وفى مشاعره، وفى أحكامه على تصرفات الناس. بل تبدو الرحمة أيضاً فى ملامح وجهه... الخير هو اقتناع داخلى بحياة القداسة، مع ارادة مثابرة على عمل الخير وتنفيذه. هو حب صادق للفضيلة، تعبر عنه حياة فاضلة..
** والذى يحب الخير، يسعد بأن جميع الناس يعملون الخير،
بدون غيره من أحد. فالذى يغار يدل على أن فيه شئ من الذاتية. أما محب الخير، فإنه يفرح حتى لو رأى أن جميع الناس يفوقونه فى عمل الخير.. ويكون بذلك سعيداً. المهم عنده أن يرى الخير، وليس المهم أن يتم الخير بواسطته أو بواسطة غيره، بعيداً عن كل مشاعر الحسد...
** والانسان الخيرّ يقيم تناسقاً فى حياته بين فضائله. فلا تكون واحده على حساب الأخرى! خدمته مثلاً للمجتمع، لا تطغى على اهتمامه بأسرته. ونشاطه لا يطغى على أمانته لعمله. كما أن أمانته تجاه كل مسئولياته لا تعطل شيئاً من صلاته وعبادته...
وهو يدرك أن الفضيلة التى تفقده فضيلة اخرى، ليست هى فضيلة كاملة أو خيرّة. لأن الفضائل تتعاون معاً، ويتداخل بعضها فى البعض...
فهكذا نتعلم من الله نفسه تبارك اسمه: فعدل الله مثلاً لا يمكن أن يتعارض مع رحمته، بل ولا ينفصل عنها. عدل الله عدل رحيم. ورحمته رحمة عادلة. عدل الله مملوء رحمة. ورحمة الله مملوءة عدلاً. ولا نستطيع أن نفصل بينهما. وعندما نقول عدل الله ورحمة الله، فلسنا من جهة الفصل بينهما نتكلم، إنما من جهة التفاصيل، لكى نفهم...
** والخير ليس هو فضبلة سلبية، بل ايجابية:
ليس هو سلبية تهدف الى البعد عن الشر، إنما هو إيجابية فى عمل الصلاح ومحبته. فالإنسان الخيرّ ليس هو فقط الذى لا يؤذى غيره، بل هو بالحرى الذى يبذل ذاته عن غيره. ليس هو فقط من لا يرتكب خطيئة، بل هو الذى يعمل براً.
** والانسان الخيرّ هو الذى يصنع الخير مع الجميع.
حتى مع الذين يختلفون معه فى الجنس أو اللون أو اللغة أو المذهب أو العقيدة.
إنه كالينبوع الصافى يشرب منه الكل. وكالشجرة الوارقه يستظل تحتها الكل. إن الينبوع والشجرة لا يسألان أحداً: ما هو جنسك؟ أو ما هو لونك أو ما هو مذهبك. وهكذا الخير يعطى دون أن يتفرس فى وجه من يعطيه. ويحب دون أن يحلل دم من يحبه..
** والانسان الخيرّ يعمل باستمرار على توسيع طاقاته فى عمل الخير...
ولا يرضى على الخير الذى يعمله من أجل اتجاهه نحو خير أكبر. وفى اشتياقه الى اللامحدود، يشعر أن هناك آفاقاً فى الخير أبعد بكثير مما يفهمه حالياً.. ويقيناً أننا عندما ندخل الى عالم الروح فى الأبدية، سننظر الى ما عملناه من خير فى العالم، فنذوب خجلاً ونتوارى فى حياء!.
** على أن كل ما نعمله من خير، إنما هو نتيجة لعمل نعمة الله فينا،
أو هى نتيجة لتسليم إنفسنا الى عمل نعمة الله. لذلك فالانسان يبعد عن الخير، عندما يعلن انفصاله عن نعمة الله. أى عندما يرفض أن تقود النعمة حياته، وتبدأ ارادته البشرية أن تعمل منفردة!!.
حياة الخير اذن، هى حياة تسليم الارادة لله، أى حينما يسلّم الانسان لله كل فكره وكل مشاعره وكل عمله. ولعل هذا الانسان حينما يقف فى يوم الدينونة أمام الله، يقول فى دالة الحب لله: على أى شئ سوف أدان يارب وأنا من ذاتى لم أعمل شيئاً! وإنما حياتى كلها كانت بين يديك. وكل شئ بك كان. وبغيرك لم تكن شئ مما كان!!.
فهل أعمالك أيها القارئ العزيز هى كذلك أى هى مجرد عمل النعمة فيك. أم هى أعمال بشرية بحتة، قابلة للزلل وللخطأ والسقوط؟!.
** واعلم أن الخير كالماء، الذى هو دائماً يمشى ولا يقف...
فإن وقف أصابه الركود... لذلك فإن الخير، باستمرار يمتد الى قدام، يتحرك نحو الله ونحو الناس. فهو لا ينتظر حتى يجئ الناس اليه، يخطبون ودّه، بل هو الذى يتحرك اليهم دون أن يطلبوه. ولذلك فلأنه الخير فيه دائماً عنصر المبادرة...
** وعمل الخير، على الدوام فيه لذة.
حتى إن كان أحياناً مملوءاً من الآلام. فآلامه حلوة المذاق، تريح القلب وتريح الضمير... فالذى ينقذ غريقاً يشعر بلذة فى انقاذه. والتى ترضع طفلها، تشعر بلذة فى إرضاعه. والذى يحسن الى فقير، يشعر بسعادة فيما يسعده. والذى يضحى فى سبيل وطنه، يجد كل المتعة والفخر فى تضحيته...
** والخير لا يشترك اطلاقاً مع الشرّ. لأنه أية شركة بين النور والظلمة! لذلك نحن لا نوافق إطلاقاً على المبدأ المكيافيللى القائل بأن الغاية تبرر الواسطة. أى أن الغاية الخيرة يمكن أن تكون تبريراً للوسيلة الخاطئة! فوسيلة الخير ينبغى أن تكون خيراً مثله. والخير لا يقبل أية وسيلة شريرة توصل اليه. إذ كيف يجتمع الضدان معاً؟!.
فالذى يلجأ الى الكذب لكى ينقذ إنساناً، والذى يلجأ الى القسوة والعنف لكى ينشر بهما الحق أو ما يظنه حقاً.. والذى يلجأ الى الرشوة لكى يحقق لنفسه خيراً. والذى يلجأ الى الإجهاض لكى يستر سمعة فتاة... كل اولئك قد استخدموا وسائل شريرة، لكى يصلوا بها الى الخير، أو الى ما يظنونه خيراً!.
** ولعل البعض يسأل: ماذا نفعل اذا كنا مضطرين الى هذه الوسائل؟
نجيب بأن هذه كلها وسائل سهلة وسريعة، يلجأ اليها الإنسان بطريقة تلقائية، دون أن يحاول بذل مجهود للوصول الى الخير، ودون أن يبذل تضحية، ودون أن يتعب أو يحتمل...
فالكذب مثلاً حلّ سريع وسهل. أما الانسان الحكيم الخيرّ، فإنه يفكر ويجتهد ذهنه بعيداً عن هذه الوسيلة. ويقيناً انه سيصل الى وسيلة اخرى تريح ضميره. كذلك العنف والقسوة، كل منها حلّ سهل يلجأ اليه انسان لا يريد أن يتعب فى الوصول الى حل آخر يكون وديعاً ولطيفاً...
** إن الخير يريدك أن تتعب من أجله، ولا تلجأ الى الحلول السهلة السريعة ولكنها خاطئة...
وبقدر تعبك من أجل الخير، تكون مكافأتك عند الله.. وبهذا المقياس تقاس خيريتك. إن الحل السهل يستطيعه كل انسان. أما الذى يكد ويتعب للوصول الى تصرف سليم، فإنه يدل على سلامة ضميره وحبه للخير. عليك اذن أن تفحص الوسائل التى تستخدمها للوصول الى الخير، وتتأكد أنها وسائل خيرّة.
إن الشيطان حينما يفشل فى إقناعك بطريق الشر، ويجدك مصراً على الخير.
فإذ يفشل فى السيطرة على الهدف أو نوع العمل، قد يقنع بالسيطرة على الوسيلة، فيقدم لك خططاً للوصول... فاحذر اذن، ولا تجعله يكسب أية جولة فى صراعه معك.
** أخيراً، اطلب من الله أن تكون نتائج عملك خيراً أيضاً:
لاشك أنك قد لا تستطيع أن تتحكم فى النتائج. وقد تتدخل فى الأمر عوامل شريرة خارجة عن ارادتك، محاولة أن تفسد نتائج مجهوداتك الخيرّة... إنك كما تجاهد بكل قوتك أن تعمل خيراً، فإن الشيطان من جهته يعمل بكل قوته لكيما يعرقل عملك. ولكن لا تيأس، فإن الله يتدخل لإعانتك.
لهذا قلت لك إن العمل الخير تكون نتائجه بقدر الامكان خيراً.