لا أَضَعُ نُصبَ عَينَيَّ شيئًا تافِهًا. أَبغَضتُ عَمَلَ الجاحِدينَ فلا يَعلَقُ بي (مز 101 /3)
حول تنشئة الأولاد - الأب برفيريوس الرائي - الجزء الأول
مقالات روحية
الأب برفيريوس الرائي
حول تنشئة الأولاد
" يوجد لحالة الإنسان الروحيّة قسمٌ كبيرٌ من المسؤوليّة "
تبدأ تنشئة الأولاد من لحظة تكوينهم
تبدأ تنشئة الأولاد من لحظة تكوينهم، فالجنين يسمع ويشعر وهو في أحشاء أمّه، أجل، إنّه يسمع ويرى بعينيّ الأم . يُدرك تحرّكاتها ومشاعرها، رغم أنّ فكره لم يكن قد نما.
يشحب وجه الأم، وكذلك وجه الجنين. تغضب الأم ويغضب الجنين. تشعر الأم بالحزن، بالألم، بالخوف، بالقلق..... فيتأثَّر الجنين بكلّ هذا. إذا رفضت الأم جنينها، إذا كرهته، يشعر الجنين بهذه الأحاسيس، فتتكوّن في نفسه الصغيرة جروحات ترافقه مدى عمره كلّه. ويحصل عكس ذلك مع مشاعر الأم المقدَّسة. وعندما يكون في قلبها الفرح والسلام، والمحبّة للجنين، تُنقَل هذه الفضائل سرّاً إلى مَن تحمل في أحشائها كما يحصل مع الأطفال المولودين. لهذا يجب على الأم أن تصلّي كثيراً خلال فترة الحمل وأن تحبّ الجنين وتداعب بطنها وأن تقرأ المزامير، وترنّم (الطروباريّات) التراتيل وتعيش حياةً مقدَّسة. وهذه الممارسة تعود بالنفع لها، بل وتضحياتها من أجل جنينها، لكي يصبح الولد كذلك أكثر قداسةً، ويمتلك من البداية إيداعات مقدَّسة .
أَرأَيتم كم هو دقيق أن تحمل المرأة ابناً ؟
كم هي المسؤوليّة كبيرة وكم هو الشرف عظيم!
سأقول لكم شيئاً له علاقة بما سبق، وعن كائنات حيّة غير عاقلة وستفهمون منه القليل.
في أميركا يختبرون ما يلي:
في قاعتَين متشابهتَين، درجات حرارتهما واحدة وريّهما واحد وكذلك تربتهما، يزرعون في القاعتين أزهاراً. فنلاحظ فرقاً واحداً وهو: في إحدى القاعَتين، يضعون الموسيقى الناعمة والفرحة.
النتيجة؟ ماذا أقول لكم؟! أزهار هذه الغرفة تُظهِر فرقاً شاسعاً بالنسبة إلى الثانية. ففيها حيويّة مميَّزة، لونها أكثر جمالاً ونموُّها أكبر لا يُقارَن.
- حياة الوالدَين داخل البيت وحدها تحمي وتُنشئ أولاداً صالحين
حياة الوالدَين داخل البيت وحدها تحمي وتُنشئ أولاداً صالحين . يجب على الوالدِين أن يُعطوا أنفسهم لمحبّة الله. يجب أن يَصيروا بوداعتهم، بصبرهم، بمحبّتهم لبعضهم، قدّيسين بالقرب من أولادهم. أن يضعوا كلّ يوم خطّاً جديداً وشوقاً جديداً، وغيرةً ومحبّةً للأولاد. والفرح الذي سيغمرهم والقداسة التي ستكون قد زارتهم، سوف تُطلِق النعمةَ للأولاد، وسوء تصرُّف الأولاد ينتج عن خطأ الأهل بشكل عام. لا النّصائح ولا النّظام ولا القساوة تخلِّص الأولاد. إن لم يتقدَّس الوالدِين، إن لم يجاهدوا، يرتكبوا أخطاءً كبيرةً وينقلوا الشرّ الذي في داخلهم. إن لم يعِش الوالدون حياةً مقدَّسةً، إن لم يتكلَّموا بمحبّة، يُعذِّبهم الشيطان بردَّة فعل الأولاد. المحبّة، وحدةُ الحال، وتفاهم الوالدَيْن الجيّد كلُّها واجبة ولازمة للأولاد، وهي تُعطيهم أماناً كبيراً وثباتاً .
سلوك الأولاد له علاقة مباشرة بحالة الأهل. عندما ينجرح الأولاد من سوء تصرُّف فيما بين الوالدَيْن، يفقدون قواهم وشوقهم وتأهُّبهم للسير إلى الأمام ويُفسدون بناءَ أنفسهم ويُهدِّدون هذا البناء لحظة بلحظة للخطر حتى الهدم. أسوق لكم مثلَين:
جاء إليّ مرّة شابّتان، واحدة كانت مسالكها قبيحةٌ جدّاً، تسألانني عن سبب تلك المسالك. قلتُ لهما :
- من المنزل، من والديكما.
- وفيما كنت "أتبصَّر أعماق" واحدة منهما، قلت:
- أنتِ قد ورثتِ من والدتك هذا كلّه.
- قالت، ولكنّ أهلي هم أُناس كاملون. هم مســيحيّون، يعترفون ويتناولون القربان المقدَّس، ويُمكن أن يُقال: نحن نمارس ديانتنا ونعيشها. إلا.ّ.... إذا كانت الديانة تُخطئ، أجابت تلك .
قلتُ لهما:
- لا أُصدّق شيئاً ممّا تقولانه لي. أنا أرى شيئاً واحداً فقط : لا يعيش أهلكما فرحَ المسيح .
بناءً على هذا قالت الأخرى :
- إسمعي ماريّا، حسناً يقول الأب، إنّه على حقّ. نعم.....أهلُنا يذهبون لعند الأب الروحيّ، للإعتراف، للمناولة الإلهيّة، ولكن لم يكُن سلامٌ أبداً في المنزل! كان والدنا يتأفّف بصورة متواصلة من والدتنا. وكانا يتذمّران باستمرار، مرّة لم يكن يأكل الواحد مع الآخر ومرّة أخرى لم يكن يريد الآخر مرافقة الأوّل. إنّ الأب على حقّ.
- ما اسم والدك ؟ سألتها.
- قالت لي الاسمَ.
- اسم والدتك ؟
- قالت لي أيضاً.
-"إيه"، قلتُ، يبدو أنّ داخلكِ ليس على ما يُرام مع والدتكِ.
إسمعوا لي الآن: الّلحظة التي فيها كانا يقولان لي الإسم، "كنتُ أرى" الأب،كنتُ أرى نفسه. ولحظة قولهما لي إسم الأم، "كنتُ أرى" الأخيرة وكنت أرى كيف كانت الإبنة تنظر إلى والدتها.
مرّةً أخرى أتت أمٌّ مع إحدى بناتها وزارانني. كانت منزعجة وكانت تجهش بالبكاء وكانت تشعر بحزنٍ ،وبؤسٍ عميق .
سألتها، ما بكِ ؟
- إنّي يائسة مع ابنتي الكبيرة، التي طردت زوجها من البيت وكانت تضلّلنا قائلةً أكاذيب كثيرة.
- قلتُ، أيّة أكاذيب؟
- طردت زوجها من البيت منذ زمن ولم تخبرنا شيئاً عن ذلك. كنّا نسألها بواسطة الهاتف «كيف حال ستيليوس؟». «بخير، كانت تجيبنا، ذهب الآن لشراء الجريدة». وكانت تختلق كلّ مرّة عذراً لكي لا نشكّ بشيء. هذا دام سنَتين وكانت تُخفي طردَه عنّا. ومنذ أيّامٍ قليلة عرفنا بطرده منه شخصيّاً، إذ رأيناه صدفة.
حسناً، قلتُ لها:
- أنتِ وزوجكِ مخطئان وخطيئتك أنتِ هي الأكبر.
- أنا ! أنا التي كنتُ أُحبّ أولادي كثيراً وكنتُ لا أخرج من المطبخ، لم يكن عندي حياةٌ شخصيّة، كنتُ أقودهم إلى الله وإلى الكنيسة، كنتُ أنصحهم للخير. كيف أكون أنا خاطئة؟
توجّهت للإبنة الأخرى، التي كانت حاضرة :
- أنتِ، ماذا تقولين؟
- نعم، يا أمّي، إنّ الأب الشيخ على حقّ، لم نأكل أبداً أبداً خبزاً حُلواً مدى العمر بسبب المناكفات التي كنتِ ترتكبينها مع والدي
- أرأيتِ أَنّني علىحقّ؟ أنتما تخطئان، أنتما تجرحان الأولاد. لم يُخطئ أولادكما، لكنّهم يُعانون من العواقب.
تولَدُ بسبب الأهل حالة في نفس الأولاد، حالةٌ تترك آثاراً في داخلهم طيلة حياتهم، وتصرّفهم بالتّالي في حياتهم وعلاقتهم مع الآخرين تتعلّق مباشرة بمسالك الحياة التي اكتسبوها من سنيّ طفولتهم. يكبرون، يتعلّمون، ولكن في العمق لا يتبدّلون.
هذا يظهر وفي أدقّ ظواهر الحياة. مثلاً: تقعُ في نَهَم. تطلب الطّعام وتأخذه، تأكل، ترى قوتاً آخر، ترغب به وتبتغيه.وتشعر من جديد بالجوع. فإذا ما أكلتَ، يُمسككَ لعيانٌ وارتعاش. تخاف من أن تضعف وهذه الحالة نفسيّة لها تفسيرها. من الممكن القول إنّكَ لم تعرفْ أباً ولا أمّاً، أن تكون سفليّاً وجائعاً، فقيراً وضعيفاً، وهذا حدثٌ روحيٌّ، ينعكس ضعفاً في الجسد.
يوجد لحالة الانسان الروحيّة قسمٌ كبيرٌ من المسؤوليّة. لا تكفي النّصائح والضغوطات ولا المنطق والتّهديدات لتحرير الأولاد من مختلف المشاكل الداخليّة، وعلى الأرجح، تسوء حالتهم. يصير الاصلاح بتقديس الأهل وتطهيرهم.
صيروا قدّيسين ولن يكون عندكم أيّة مشكلةٍ مع أولادكم. قداسة الأهل تحرِّر الأولاد من المشاكل. يريد الأولاد أُناساً قدّيسين بقربهم، مع محبّة كبيرة، أُناساً لن يخيفوهم ولا يكتفوا بإرشادهم بل سيعطونهم صلاةً ويكونون لهم قدوةً مقدَّسة.
صلّوا، أنتم الأهل، صلّوا بصمتٍ وأياديكم مرفوعة نحو المسيح، معانقين أولادكم سرّاً. وعندما يُحدثون فوضى، خذوا بعض التدابير التربويّة، لكن دون أن تضغطوا عليهم وبالأخصّ صلّوا.
مرّاتٍ كثيرة، (وخصوصاً الأمّ)، يجرِّحُ الأهل الولدَ لفوضى ارتكبها، ويؤنّبونه بشدّة. عندها ينجرح هذا الولد. يفهم الولد ويلاحظ من خلال انفعالك الداخليّ أو من خلال نظرتك الوحشيّة له أنّك تؤنّبه وتغضب وإن لم يكن هذا التأنيب ظاهريّاً . عندها يعتقد الولد أنّ الأمّ لا تحبّه. يسأل الأمّ :
- أتحبّينني، يا أمّي؟
- أجل، يا ولدي، أحبّكَ.
لكنّه لا يقتنع. إنّه قد جُرِح. تحبّه أمّه، ستدلّله فيما بعد، لكن الولد يدير رأسه عن دلال أمّه. لا يتقبّل الغنج، يظنّ هذا خبثاً ورياءً لأنّه قد جُرِح.
الإفراط في الرعاية يترك الأولاد غير ناضجين
شيء آخر يؤذي الأولاد، هو إفراط الأهل في الرعاية، أي الإفراط في العناية والمبالغة في شغل البال والقلق. إسمعوا هذا الحدث: أمّ كانت تشكو لي أنّ ابنها البالغ من العمر خمس سنوات، كان لا يُطيعُها . كنتُ أقول لها »أنتِ تُخطئين« لم تفهم قَوْلي. وفي مرّةٍ من المرّات ذهبنا بسيّارة تلك الأم مشواراًَ إلى شاطئ البحر وكان ابنها معنا وهناك أفلتَ الصـغير من يدها وركض نحوالبحر. وعلى الشاطئ تجمّعت كومة رمل،انبسط البحر فجأة من خلفها. قلقت الأم وكادت أن تصرخ، أن تركض لأنّها شاهدت الصغير على كومة الرمل ويداه ممدودتان ليتوازن. هدّأتُ أنا من روعها، حينها أدارت ظهرها نحو الإبن وكنتُ أراقبها بطرف العين. عندما قطع الولد الأمل من إثارة أمّه ودفْعِها إلى الصراخ كالعادة، نزل هادئاً شيئاً فشيئاً واقترب منّا.
وهذا ما حدث ! عندها تلقَّنتِ الأمّ درساً في التربية الصحيحة.
أمّ أخرى كانت تشكو أنّ ابنها الوحيد لم يكن يأكل أصناف الأطعمة كلّها وخصوصاً اللبن. وكان هذا الصغير في الثالثة من عمره على وجه التقريب وكان يعذِّب أُمّه كلّ يوم. قلتُ لها :
"ستفعلين ما يلي: ستفرغين الثلاّجة من كلّ الأطعمة وتضعين مكانها كميّة معيّنة من اللبن وستعانون أنتم الأهل والأولاد لبضعة أيّام. أتى وقت الطعام؟، ستعطين بطرسَ لبناً. سوف لن يأكله. عند المساء قدّمي له الطعامَ نفسه. في اليوم التّالي الشيءَ نفسه. إيه، سيجوع فيما بعد، سيختبر شيئاً. سيبكي، سيصرخ.
ستتحمّلون ذلك وسيأكل اللبن فيما بعد بطيبة خاطر».هكذا حصل وأصبح اللبن الطعام المفضَّل لبطرس.
هذا كلّه ليس بصعب. ولكن أُمّهات كثيرات لا يتبعنَه فيُلقِّنَّ أَولادهنَّ تربيةً سلبيّةً جدّاً. أُمّهات يلاحقنَ أَولادهنَّ دائماً ويضغطنَ عليهم، أي يُفرِطْنَ بالعناية بهم، فَشِلْنَ في عملهِنَّ. في حين أنّه يجب عليك أن تترك الولد يهتمّ وحده لتقدُّمه، عندها ستنجح. عندما تلاحق أَولادكَ باستمرار، تنطلق منهم ردّة فعل، فيتكاسلون ويضعفون وغالباً يفشلون في حياتهم.
هذا النوع من الإفراط في الحماية، يترك الأولاد غير ناضجين.
قبل بضعة أيّام، أتت أُمّ يائسة لفشل ابنها المتكرِّر في امتحانات الدخول للجامعة. تلميذ ممتاز في الابتدائي، ممتاز في التكميلي، ممتاز في الثانوي. بعدها كان فشل الولد، كان الإهمال، كانت ردّات فعلٍ غريبة. "أنتِ تُخطئين، قلتُ للأمّ، وأنتِ متعلّمة! ماذا كان سيفعل الولد؟ كلّ السنوات ضغط، ضغط، ضغط، لِتكنْ الأوّل، لا تُخَجِّلُنا، عليكَ أن تصير عظيماً في المجتمع..
تراجع فجأةً، والآن لم يعد يريد شيئاً. عليكِ أن توقفي هذا الضغط والإفراط في الحماية وعندها ســترَيْن كيف يعود الولد إلى توازنه . سوف يتقدَّم حين تتركينه حرّاً« .
- يريد الولد بقربه أُناساً صلاتهم حارّة
يريد الولد بقربه أُناساً صلاتهم حارّة . لا أن تكتفي الأمّ بالملاطفة الحسّيّة لولدها، بل وأن تقدّم في الوقت نفسه دفء الصّلاة. يشعر الولد في عمق نفسه بالدفء الروحيّ الذي تبعثه أُمّه سريّاً له، فينجذب نحوها. يشعر بأمان واستقرار، عندما تغمره الأمّ سرّاً بالصّلاة الدائمة، الحارّة، والمصرّة، وتحرّره ممّا يُضيِّق عليه. تعرف الأمّهات القلقَ، والنُصْح والكثير من الكلام ولكن لم يتعلّمنَ الصّلاة. النّصائح والإرشادات العديدة تُسيء كثيراً.
لا للكلام الكثير للأَولاد. الكلام يقرع الأذنَين، أمّا الصّـلاة فتذهب إلى القلب. يُحتاج إلى صلاةٍ مع إيمانٍ وإلى مثالٍ صالحٍ ولكن دون قلق.
وفي يومٍ من الأيّام أتتنا إلى الدير أمٌ يائسة من وضع ابنها يورغو. كان ملبّكاً جدّاً، يعود متأخّراً ليلاً بصحبة زمرةٍ سيّئة الأخلاق، وكانت حالته تسوء يوماً بعد يوم،وكانت الأمّ تضطرب وتبكي .
قلتُ لها:
- لا تقولي أنتِ أيَّ شيء، بل صلّي فقط .
أقمنا ساعة صلاة مشتركة عند الساعة العاشرة والعاشرة والربع، قلتُ لها أن تصمت وأن لا تسـأل ابنها متى يخرج من البيت ولا متى يعود إليه. بل أن تقول له بمحبّةٍ كبيرة: »كلْ، يا يورغو، في الثلاّجةِ طعامك«. وأن لا تقول له غير ذلك. بصورة عامّة أن تعامله بمحبّة دون أن تترك الصّلاة. بدأت الأمّ بتطبيق ذلك، وما إن مرَّ عشرون يوماً حتى قال لها ابنها:
- أمّي، لماذا لا تكلّمينني ؟
- يورغو حبيبي، أنا لا أُكلِّمك؟
- أُمّي، تُضمرين شيئاً نحوي لذا لا تكلّمينني.
- ما تقوله لي أمرٌ غريب، يا يورغو. كيف لا أُكلِّمك؟ ألا أُكلِّمكَ الآن؟ ماذا تريد أن أقول لك؟
أمّا يورغو فلم يُجبها. وبعد هذا أتت الأمّ إلى الدَير وقالت لي:
- يروندا, ماذا يعني هذا الذي قاله لي ابني ؟
- لقد نجحت خطّتُنا !
- أيّة خطّةٍ ؟
- إنّي قلتُ لكِ أن لا تتكلّمي معه، أن تصلّي فقط في السرّ وسوف يعود الولد إلى رشده.
- أتعتقد أنّ هذا هو الحلّ؟
- هذا وحده هو الحلّ، قلت لها. يريد الأهمّيّة، يريد أن تعطيه الملاحظة » أين كنتَ؟ ماذا فعلتَ؟« . أمّا هو فيصرخ ويُقاوِم ويعود أكثر تأخُّراً في الليل.
- واعجباه ! كم من الأسرار المخفيّة!!
- أفهمتِ ذلك، والحالةُ نِصب عينَيكِ؟أراد بمشـاجرتكِ له، أن يقوم بما يحلو له. وعدم هذه المشاجرة يُزعجه. وبدل انزعاجكِ أنتِ من سوء تصرّفه ينزعج هو الآن بلا مبالاتكِ واهتمامكِ .
وفي يومٍ أعلمَ يورغو أهله في البيت أنّه سيترك عمله ليذهب إلى كندا. لقد قال لربّ عمله:
- " أنا تاركٌ العمل، جِدْ آخر بديلاً عنّي«.
أمّا أنا، فقلتُ للأهل خلال هذه الأثناء :
- نحن، علينا بالصّلاة .
- ها هو حاضرٌ للسفر..... سأُنزِلُ به إلى الهاوية! قال الأب.
- كلاّ، لا تزعجه، قلتُ له.
- لكنّ الولد اتّخذ قراره بالرحيل، يروندا!
- لِيَرحلْ. أُعطوا ذواتكم للصّلاة وأنا معكم.
بعد يومَين أو ثلاثة أيّام كان الأحد.
باكراً جدّاً، قال لهم يورغو:
- أنا راحلٌ، سأذهب مع أصحابي.
- حسناً، مثلما تريد، قالوا له.
ذهب، آخذاً أصحابه برفقة فتاتَين وشابَّيْن، واستأجروا سيّارة واتّجهوا بها إلى منطقة خلكيذا. ذهبوا إلى هنا وهنالك، بعدها راحوا إلى دَير القدّيس يوحنّا الروسيّ ومنه أكملوا طريقهم إلى مناطق ماندوذي والقدّيسة حنّة، حتى وصلوا إلى فاسيليكا. ذهبوا ومارسوا السباحة في البحر الإيجي. أكلوا، شربوا، لَهَوْا. وبعدها أخذوا طريق العودة وكادَ الليل يُرخي عتمته. كان يورغو يقود السيّارة. وفي منطقة القدّيسة حنّة، اصطدم بحائط منزل. فتشوَّهت السيّارة. ما العمل الآن ؟ ساروا بالسيّارة روَيداً روَيداً وأتوا بها إلى أثينا.
وصل إلى البيت قبل بزوغ الفجر. لم يقُلْ له أهله شيئاً. أمّا هو فارتمى على سريره ونام. وعندما استيقظ من نومه قال لوالده:
- يا أبي، حصل ما حصل..... يجب الآن إصلاح السيّارة والكلفة كبيرة. قال له:
- أنتَ تعلم يا ولدي أنّني مديونٌ، وأَخواتِكَ ما زلنَ على عاتقي..... ماذا سيحِلُّ بنا؟
- ماذا أفعل أنا، يا أبي؟
- إفعل ما تريد. أنتَ بالغٌ وعاقلٌ. إرحَلْ إلى كندا لِتحصل على المال، إلخ...
- لا أستطيع، قال له. يجب الآن إصلاح السيّارة.
- لا أدري، قال له، رتِّب أنتَ أُمورك.
إستغرب الولد قَوْل أبيه ورَحَل.....
ذهب، فوجد ربَّ عملِه وقال له:
- يا سيّدي، حصل ما حصل معي. لن أَترك عملي، فلا تتعاقد مع غيري.
- حسناً، حسناً، يا بنيّ!!
- ولكنّني أُريد مالاً.
- نعم، ولكنّكَ تريد الرحيل. وتوقيع والدِك واجبٌ.
- أنا سأُوقِّع لكَ. والدي لا يتدخَّل. هذا ما قاله لي. سأعمل أنا وسأفيكَ مالكَ. أليس ما حصل أعجوبة من الله؟ وعندما عادت الأمّ مجدَّداً قلتُ لها:
- نجحت الطريقة التي اتّبعناها وصلاتنا سُمِعت من الله. والحادث كان من الله وسيبقى الولد في البيت وسوف يعود إلى رشده. هكذا حصل من خلال صلاتنا.
حصلت أُعجوبة. صامَ الأهل وأقاموا الصّلاة والصّمت ونجحوا. ثمّ بعد فترة قصيرة أتاني الولد دون أن يوجّهه أحدٌ من أهله. أصبح يورغو عنصراً جيّداً وهو يعمل الآن في شركة طيران وأسّس عائلةً صالحةً