خَلِّصْ يا رَبُّ، فإِنَّ الصَّفيَّ قدِ أنقَرَض و الأَمينَ مِن بَني آدَمَ قد زال ( مز 12 /2)
كلمة الأب الأقدس خلال تكريمه التقليدي لتمثال الحبل بلا دنس
كلمة الأب الأقدس خلال تكريمه التقليدي لتمثال الحبل بلا دنس
في بياتزا دي سبانيا، في روما
روما، 10 ديسمبر 2007 (Zenit.org). ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها الأب الأقدس خلال تكريمه التقليدي لتمثال الحبل بلا دنس في بياتزا دي سبانيا، في روما، وذلك نهار السبت 8 ديسمبر، عيد سيدة الحبل بلا دنس.
* * *
نلتقي في ساحة اسبانيا، في موعد بات تقليديًا، لنقوم بتكريم السيدة العذراء بالزهور، في يوم تحتفل فيه الكنيسة الجامعة بعيد الحبل بلا دنس. سيرًا على خطى أسلافي، أنضم أنا أيضًا إليكم، يا مؤمني روما الأعزاء، لكي أقف بعطف ومحبة بنوية عند أقدام العذراء، التي تسهر منذ 400 سنة من رأس هذا العامود على مدينتنا.
وعليه فإن بادرة اليوم إنما هي علامة إيمان وتقوى تكررها جماعتنا المسيحية سنة تلو الأخرى، للتأكيد عن التزامها بالأمانة لتلك التي تضمن لنا عونها وحمايتها الأمومية في كافة حالات حياتنا اليومية.
تشكل هذه البادرة الدينية في الوقت عينه، مناسبة لكي أقدم لمن يقطن روما، وللذين يقضون فيها بضعة أيام كحجاج أو سواح، فرصة أن يشعروا، رغم اختلاف الحضارات، بأننا عائلة واحدة تجتمع حول أمٍ شاركت كل امرأة وربة عائلة أتعاب الحياة اليومية. ولكنها أمٌ فريدة، سبق الله واختارها لرسالة فريدة وغامضة: أن تنجب إلى الحياة الأرضية كلمة الآب الأزلي، الذي جاء العالم لخلاص البشر طرًا.
ومريم، البريئة من الدنس في حملها العذري ونحن نكرمها اليوم بتقوى وعرفان -، قد خاضت حجها الأرضي مستندة على إيمان لا يتزعزع، ورجاء لا يتقوض وحب متواضع ولامحدود، سائرة على خطى ابنها يسوع. لقد وقفت بجانبه بثبات منذ الولادة وحتى الجلجلة، حيث شاركت في حدث الصلب وقد صعقها الألم، إلا أنها بقيت وطيدة الرجاء. ومن ثمّ، اختبرت فرح القيامة، في فجر اليوم الثالث، اليوم الجديد، عندما خلّى المصلوب القبر ظافرًا للأبد وبشكل نهائي على سلطان الخطيئة والموت.
إن مريم، التي صار الله إنسانًا في حشاها، هي أمنا! فقد أعطانا إياها يسوع أمًا من أعلى الصليب، قبل أن يتمم تضحيته، وأوكلنا إليها كأبناء. إن هذا سر رحمة وحب، هبة تغني الكنيسة بعطية أمومة روحية خصبة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلنوجه طرفنا إليها بشكل خاص اليوم، ولنطلب عونها، ولنكن على استعداد لكي نقدر حق التقدير تعليمها الأمومي. ألا تدعونا يا ترى، هذه الأم السماوية، إلى مجانبة الشر وإلى صنع الخير عبر الانصياع بوداعة للشريعة الإلهية المكتوبة في قلب كل مسيحي؟ هي التي حفظت الرجاء حتى في خضم المحنة والتجربة، ألا تطلب منا أن ننظر بثقة إلى المستقبل؟ ألا تحضنا العذراء البريئة من الدنس على أن نكون إخوة بعضنا لبعض، يوحدنا الالتزام لنبني سوية عالمًا أكثر عدلاً، وتعاضدًا وسلامًا؟
أجل أيها الأصدقاء الأعزاء! مرة أخرى، في هذا اليوم الاحتفالي، تدل الكنيسةُ العالمَ على مريم كعلامة رجاء أكيد، وانتصار نهائي للخير على الشر. تذكرنا تلك التي ندعوها "ممتلئة نعمة" بأننا كلنا إخوة، وأن الله هو خالقنا وأبونا. من دونه، بل والأسوأ من ذلك، بالوقوف ضده، لن نتمكن أبدًا كبشر أن نجد الدرب الذي يقود إلى المحبة، لن نستطيع البتة من نوال الغلبة على سلطان الكره والعنف، لن نفلح أبدًا في بناء سلام راسخ.
فليتقبل البشر من كل قطر وثقافة رسالة النور والرجاء هذه: فليتقبلوها كعطية من يدي مريم، أم البشرية جمعاء. إذا كانت الحياة مسيرة، وغالبًا ما تكتنف هذه المسيرة الظلماتُ، والصعوبات الإرهاق، أية نجمة قطبية تستطيع تنويرها؟ في رسالتي العامة "مخلصون بالرجاء"، التي نُشرت في مطلع زمن المجيء، كتبت أن الكنيسة تنظر إلى مريم وتدعوها باسم "نجمة الرجاء" (عدد 49). في رحلتنا في لجة بحر التاريخ، نحتاج إلى "أنوار الرجاء"، إلى أشخاص يستمدون النور من المسيح "ويقدمون بهذا الشكل هديًا لعبورنا" (المرجع نفسه). ومَن أفضل مِن مريم يستطيع أن يكون "نجمة الرجاء"؟ فبنَعَمها، وبالهبة السخية لإرادتها التي تلقتها من الخالق، سمحت مريم لرجاء آلاف السنين أن يصبح حقيقة، وأن يلج في هذا العالم وفي تاريخه. بواسطتها صار الله جسدًا، صار واحدًا منا، ونصب خيمته في وسطنا.
لذا، وإذ تحركنا الثقة البنوية، نقول لها: "علمينا، يا مريم، أن نؤمن، أن نرجو وأن نحب معك؛ اهدينا إلي الدرب الذي يؤدي إلى السلام، إلى الدرب نحو ملكوت يسوع. أنت، يا نجمة الرجاء التي تنتظرينا بلهفة في نور الوطن السماوي الذي لا يغرب، تألقي فوقنا وأرشدينا في مسائلنا اليومية، الآن وفي ساعة موتنا. آمين!".