أَللَّهمَّ أَصْغِ إِلى صَلاتي و لا تَحتَجِبْ عن تَضَرّعي. (مز 55 /2)
خواطر في معضلة الألم - معالي القصاص
خواطر في معضلة الألم
معالي القصّاص
هل يمكننا شرح الشر؟
كلّ سؤال حول قضيّة الشر لا يُحبِط جميع الإجابات وحسب، بل يتملّص من التساؤل نفسه، فالشرّ لغز مُبهم لا ينتمي كيانه إلى سلسلة مقولاتنا وإدراكنا. ومع ذلك، لا يستطيع الإنسان أن يكفّ عن قرع الباب سائلاً، حتى وإن سببّ له الجواب شرّاً أشدّ قسوة. نحن بشر، ولا نستطيع التوقّف عن التساؤل.
إنّ أسوأ الشرور هو الشرّ الذي نستطيع شرحه أو تبريره. فحين نشرح شرّاً أو نبرّره، نمنحه شرعيّةً وعذراً، وندخله في دائرة المنطق والمقبول عقلياً، بينما سمة الشرّ هي اللامنطق واللامعقول.
في بعض الأحيان، يحاول أشخاص أن يكونوا متفائلين ويقولون: "إنّ الشرّ يقودنا إلى الخير." لو كان هذا الكلام صحيحاً، لوجب علينا أن نعتبر الشرّ وسيلةً حسنة يُنصَح بها. وبالتالي، عليّ أن أدع اللص يسرقني لأن سرقته ستساعدني على التجرّد عن خيرات هذا العالم الفاني. وأن أرحّب بموت ابني لأن الموت ينعم عليَّ بتعميق رجائي في الحياة الأبدية. وأن أفرح لاغتصاب ابنتي، لأن أزمة الاغتصاب تساعدها على التعمّق في معنى حياتها وغايتها. فالمحاولات البائسة لشرح الشرّ تؤدّي إلى لامعقولية مجنونة. والإجابة عن السؤال: لماذا الشرّ؟ هي محاولة بائسة لجعل الشرّ معقولاً وهو اللامعقول بعينه.
ويعكس اللاشرح للشرّ قبساً من الحقيقة. فهناك طرائق مضللّة لإدراك الشرّ وفهم معناه وسبر غوره. وهذا ما يفعله المتسفسطون، فيؤكدوا أموراً بدون عمق ولا بصيرة. هذا ما فعله أصدقاء أيّوب حين حاولوا تفسير أسباب الشرّ الّذي أصابه. ومع ذلك علينا أن نرفض حبس الشرّ في خانة اللغز المبهم، وكأنّ إدراكه لا يتمّ إلاّ بالغوص في اللامعقول. علينا أن نسأل الله ونتلمّس إيحاءاته.
جواب الله
إنّ الشرّ يجبرنا على التساؤل: لماذا؟ لماذا أنا؟ وتزداد هذه التساؤلات حدةً حين نؤمن بإلهٍ واحدٍ وحيد، مطلق الحكمة والطيبة والقدرة. حينها، يستحيل علينا ألاّ نسأله عن سبب ألمنا، وأن نصرخ أمامه: لماذا؟ إذا كان هو الإله الوحيد، فهو مسؤول عن الألم والشرّ مسؤولية كاملة. وإذا كان حكيماً، عليه أن يكشف لنا اللا معقول. وإذا كان طيباً، لن يسمح بالشرّ. وإذا كان قديراً فليتغلّب عليه ويزيله عن الوجود. وهكذا، نجد أنّ وحدانية الله في الألوهة والخلق تقحمه عنوةً في قضيّة الشر، وتجبره على الإجابة عن اللماذا؟ ومَن المسؤول؟
كان أيوّب يفتّش يائساً عن معنى شقائه. وفي أثناء تفتيشه، تحطّمت على صخرة ألمه كلّ الإجابات. وبعد ذلك، أتته إجابة الله لتنتشله من الانغلاق في ظلام لغزٍ مبهم وغير معقول، ولتجعله يلمح بزوغ فجرٍ للمعنى: الشّر موجود، لكنّه ليس مطلق اليد، فقد وضع الله له حدوداً داخل مشروع الخليقة الشامل، وداخل سرّ الحياة الّذي لم ينكشف بعدُ.
إنّ الانتقال من" لماذا" إلى" لذلك" قد يدلّنا إلى طريق نسلكه. فحين التّقى عيسى ابن مريم بأعمى منذ مولده، سأله الحوّاريّون: مَن أخطأ أهذا أم أبواه حتّى ولد أعمى؟ فدعا الحوّاريّين إلى هذا الانتقال وأجابهم بما معناه: ما من شيءٍ يختبىء وراء هذا الشّر، ولا داعي للبحث عن مذنبٍ أو التفتيش عن السبب، لكنّكم قد تكتشفون شيئاً داخل الألم، وتلاحظون أنّ الله لا يقف أمامه مكتوف اليدين، بل يعمل (لتتم أعمال الله فيه). ولعلّ هذا هو جوهر الاختلاف بين نظرة النصارى إلى الألم ونظرة غيرها إليه.
فالتيارات الفلسفيّة البارزة والديانات الكبرى تعطي شرحاً للشّر والألم، وتقترح طرائق كي لا ينهار الإنسان من وطأة الألم وقسوة الشّر. ووجود هذه الشروحات والاقتراحات يعكس حاجة الإنسان الملحّة إلى إدخال الشّر في دائرة المعنى ... وعلى الرغم من كل الإشكاليّات التّي تُثار عند طرح أيّ شرح، يبدو أنّه من الأفضل إعطاء شرحٍ غبيّ تافه من أن لايُعطى أيّ شرح. لذلك لاقت التعاليم الأغسطينية في شأن الخطيئة الأصلية رواجاً بين الناس. وتعتمد هذه التعاليم على ما ورد في سفر التكوين: "ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت، لأنّ كلّ بشر قد أفسد طريقه عليها". فالشرّ من صنع الإنسان. وبما أنه فسد، انتقلت العدوى إلى الطبيعة، فكان المرض وكانت الكوارث الطبيعية والموت. وعلى الرغم من إشكاليّات التعاليم الأوغسطينية، يقول الفيلسوف باسكال: "بدون هذا السر (أي الخطيئة الأصليّة) الذي لا يفهمه أحد، سنعجز عن فهم أنفسنا". نحن بحاجة شديدة إلى فهم أنفسنا. ولأجل ذلك، نستعين في بعض الأحيان حتّى بما هو غير مفهوم.
إنّ حاجة الإنسان إلى فهم نفسه يشرح أيضاً ظواهر نفسيّة مُقلقة: يشعر الأطفال الذيّن اغتُصِبوا أو ضُرِبوا أو هُجِروا بالذنب بدل أن يشعروا بأنّهم ضحايا. وتحاول الديانات التوحيديّة أيضاً أن تعطي شروحاً للشّر. فهي تميّز بين شّر وشّر: شر كعقاب، وشّر كمحنة، شّر محدود ومؤقّت، شّر مغلوب، شّر يجب القضاء عليه ...
العامل المشترك الوحيد بين هذه الشرور هو أنّ مصدرها خليقة حسنة جداً. ونهايتها سماء جديدة وأرض جديدة. والشّر موجود بين هذين الطرفين ولكنّه محصور بهما، مُنتَزَعٌ من ضبابية اللامعقول، وموجّه على الرغم منه نحو أملٍ مشرق. لذلك نحن بحاجة ماسّة للعودة إلى المنابع الكتابية لنستوعب وجود الشّر في مشروع الله الخلاصيّ الذي كُشِفَ لنا