أما أنتم فلا تدعوا أحدا يدعوكم (( رابي ))، لأن لكم معلما واحدا وأنتم جميعا إخوة ( مت 23 /8)
الحرية وحرية المسيحي - الاستاذ موريس آكوب
الحرية و حرية المسيحي
الأستاذ موريس آكوب
مقدّمة
ليست الحرية حقيقة موضوعية وحسب، إنما هي أيضاً قيمة يناضل الإنسان من أجل تحقيقها وهذا يعني أنه لا توجد حرية, إنما هناك حريات بقدر ما يوجد بشر يسعون نحو الحرية إذ لكل حريته الخاصة به النابعة من اختباره الشخصي والمشروطة بشروط وجوده؛ وربما كان هذا هو السبب العميق لاختلاف الناس في فهمهم للحرية وفي تحديد معناها بالإضافة إلى أسباب أخرى ترتبط بالمجالات التي يمارسون فيها حريتهم.
إذن ثمة اختبارات للحرية ومجالات, وتعدّد هذه الاختبارات والمجالات أدى إلى تعدّد في معنى الحرية, وبالتالي إلى غموض فيه, جعل الناس يختلفون حولها ويتحزّبون فيها؛ فمنهم من قال بها وتعصّب لها, ومنهم من أنكرها وغالى في إنكاره لها إلى حد لا يقل تعصّباً عن الفريق الأول.
أما نحن فسيكون لنا شأن آخر في هذا الموضوع ؛ وكيلا نقع في المتاهة نفسها يحسن بنا أن نشير إلى أمر مهم هو أن التعدد في معنى الحرية لا يمنعنا من إيجاد عامل مشترك في طبيعتها يسمح لنا بحدّها, ينبع من كون الحرية هي القضية الكبرى والتجربة الأغنى للإنسان أي إنسان في أي زمان وأي مكان, من حيث هو كائن يعقِل ويعمل, ومن حيث أن الحرية هي جوهر عمله وشرطه الضروري، ذلك العمل الذي يهدف إلى تحقيق الخير.
تعريف الحرية
إن هذا العامل المشترك هو كون الحرية قدرة على اختيار الأفضل الذي ينمي الشخصية ويحرر طاقاتها لتحقق الخير الذي هو الغاية القصوى لوجودها. هذه القدرة على الاختيار في شكلها الراهن ولدى أي إنسان ليست فطرية؛ فنحن لا نولد أحراراً كما نحن عليه اليوم على غرار أننا لا نولد ونحن نملك القدرة على الكلام أو السير. إن ما هو فطري فينا هو كوننا نملك بذور الحرية, كما نملك بذور القدرة على الكلام أو السير. هذه البذور هي استعدادات تتحول بالجهد والنضج إلى قدرات كما يتحول استعداد السير لدى الطفل, تحت تأثير نضج العضلات والتدريب إلى قدرة على السير. بهذا المعنى نقول إنّ الحرية هي هبة الطبيعة وبالتالي هبة الله لأن الطبيعة هي من إبداع الله ومن فيض محبته، وبهذا المعنى فقط نقول إن الله خلقنا أحراراً ومنحنا العقل لننمي ما فينا من استعدادات فنبلغ ملء إنسانيتنا.
الحرية الداخلية - حرية الروح
لن نتحدث هنا عن الحرية الميتافيزيائية الفلسفية
ليست الحرية حقيقة موضوعية وحسب، إنما هي أيضاً قيمة يناضل الإنسان من أجل تحقيقها وهذا يعني أنه لا توجد حرية, إنما هناك حريات بقدر ما يوجد بشر يسعون نحو الحرية إذ لكل حريته الخاصة به النابعة من اختباره الشخصي والمشروطة بشروط وجوده؛ وربما كان هذا هو السبب العميق لاختلاف الناس في فهمهم للحرية وفي تحديد معناها بالإضافة إلى أسباب أخرى ترتبط بالمجالات التي يمارسون فيها حريتهم.
( الإحساس بالقدرة على عمل ما فقط لأنني أريده)
ولا عن الحرية الإجتماعية التي تأتي في غياب الإلزام من طرف الجماعة ( أنا حر عندما أفعل ما أريده ومايحلو لي).
ولا عن الحرية السياسية (أنا حر عندما أمارس حقي في الإنتخاب والإجتماع والتمثيل السياسي وفي إصدار القوانين وطريقة تنفيذها).
ولا عن الحرية السيكولوجية النفسية (أنا حر عندما أكون مستقلاً تماماً عن كل ماهو غريب عني من بواعث ومبررات داخلية حيث ينبع فعلي الحر من أعماق ذاتي ويُعبِّر عنها).
ولا حتى عن الحرية الأخلاقية (أنا حر في الإختيار بين الخير والشر بعد تمام التفكير فيهما ومعرفتهما).
إن كل أشكال الحريات هذه ليست بعيدة عن موضوعنا، لأن الإنسان في النهاية هو واحد يجمعها في ذاته في علاقة جدلية.
إنّ ما أقصد التركيز عليه هو حرية فيها طرف من كل ماذكرنا من حريات , إنها الحرية الداخلية , حرية الروح, حرية أبناء الله, حرية تقبل أن يخضع ماهو أدنى فينا إلى ماهو أعلى, حرية تقبل أن تتقيد بكل ما من شأنه أن يجعل الإنسان يتجاوز ذاته ويخرج منها إلى لقاء الآخر, ويسمو ومازال يسمو حتى يصل إلى قمة الحب الشامل.
نسبية الحرية
إنّ الفهم العاقل للحرية يقتضي القول بنسبيتها، فالقول بوجود الحرية أو بعدم وجودها بإطلاق، يدل على قِصَر نظر, ووعي ناقص, لأنه يتجاهل نوعين من الوقائع تفرض نفسها بقوة إلى درجة تجعل الشك بوجودها أمراً لا معقولاً.
هذه الوقائع هي:
أولاً - وجود قيود داخلية وخارجية تقيّد الإنسان وتحدّ من حريته.
ثانياً - إمكان التفاعل مع هذه القيود وحذف بعضها, وتكييف الآخر والتكيف معه إلى حد ما, مما يجعلنا أحراراً إلى حد معين.
إذن حريتنا محدودة ومشروطة بحدود وشروط وجودنا, وتجعل مَن يقول أنا حر تماماً أو أنا لست حراً أبداً على خطأ مبين.
الحرية هي عملية تحرر
إن مقياس حريتنا هو مدى قدرتنا على ممارسة الحرية. فالحرية هي قدرة على التحرر, قدرة على التخلص من القيود التي تتنافى مع حريتنا, وقدرة على تحقيق نوع من التكيّف والمصالحة والقبول للقيود التي يمكن أن تكون سنداً لحريتنا.
هذه القيود نوعان :
قيود داخلية باطنية: هي غرائزنا، طبعُنا (وراثتنا).
قيود خارجية: هي مجتمعنا بما فيه من ثقافة جامعة (عادات, تقاليد, قوانين وأنظمة).
فغرائزنا جزء مهم من طبيعتنا الإنسانية, وهي جذور فعاليتنا. ولا يمكن أن نكون أحراراً إزاءها إذا قضينا عليها وتخلصنا منها كما يدّعي بعضهم. إنّ حريتنا تجاهها تعني أن نهذّبها لا أن نحذفها, أن نُخضِعها لمنطق العقل, وننيرها بنور العلم والقيم الأخلاقية فتصبح هكذا معنا لا علينا.
إن موقفي الخاطئ من دافع الجنس مثلاً وإساءة ممارستي له, يجعلانني عبداً له, في حين أن موقفي الصحيح منه يجعلني سيداً له ويساعدني بالتالي على الوصول إلى مزيد من الانطلاق والعفوية والاتزان والحب. لاشك أن الإنسان مشدود بقوة نحو غرائزه، بَيد أن تاريخ الحضارة يعلمنا أنه إذا كان للإنسان بعض الكرامة فلأِنه استطاع أن يسمو, بحرية على ما هو غريزي فيه.
أما المجتمع فهو إذ يربينا, يُحسِن إلينا من جهة عندما ينقل إلينا ماهو حسن فيه فيضعنا أمام واجبات ومسؤوليات ومهمات نبيلة تسمو بنا وتساعدنا هكذا على ممارسة حريتنا مثل واجب رب الأسرة تجاه أسرته والمربي تجاه أطفاله... ولكنه يسيء إلينا من جهة أخرى, عندما يقسُرنا على تبنّي مفاهيم بالية, ويدفعنا إلى نوع من المراءاة فيها نُزيّف حقيقتنا, فنظهر بمظهر لا يَنُمُّ عن حقيقتنا بل يرضيّ المجتمع، وهو إذ يفعل ذلك يأسُرنا ويشُلّ ما هو أصيل فينا. فحريتنا، والحال هذه، تعني أن يكون لنا القدرة على أن نقول لا لتلك المفاهيم وأبداً لذلك التزييف وأن نجدّ في البحث عن هُويّتنا الصحيحة التي هي مصدر أصالتنا وأن نحافظ عليها.
تربية الحرية : طريق الحرية هو طريق الفضيلة
الحرية كما أسلفنا هي قدرة على التحرر تسمح لنا بأن نختار الأفضل مما يحقق وجودنا وخيرنا ومصلحتنا الحقيقية. ولمّا كانت هذه القدرة امتيازاً لا يحق لنا أن نرفضه وإلاّ رفضنا إنسانيتنا كان من واجبنا أن ننميها كما ننمي كل شيء حسن فينا. وحتى تنمو هذه القدرة وتتضاعف لا بد من شرطين هما:
المعرفة والإرادة.
إنّ معرفتنا لطبيعية القيود التي تحدّنا داخلية كانت أم خارجية, تجعلنا ندرك عواقب الرضوخ لها والنتائج الإيجابية للتكيّف معها. وبالتالي إلى حُسن التصرف حيالها. أما جهلنا لطبيعتها وقوانينها، يجعلنا ضِعافاً مشتتين أمامها وفي حالة خوف منها, ويدفعنا بالتالي إلى اساءة التصرف حيالها. وهنا نجد مِصداق الحكمة القائلة: الإنسان صديق ما يعلم عدوما يجهل.
أما الشرط الثاني فهو الإرادة. إنّ مجرد المعرفة لا يكفي لنكون أحراراً, فكثيراً ما نعرف الحق والصواب فلا نفعله وكثيراً ما نعرف الباطل والخطأ وإيّاه نفعل.
فالأنانية التي تنبع من غرائزنا أصلاً تشدّنا إلى داخلنا, وتُدخلنا إلى سجن ذواتِنا فلا نعود نصغي إلاّ إلى مطالب غرائزنا, وكأنها تعيدنا إلى طفولتِنا. إلى مركزية الأنا فلا نعود نرى إلاّنا فنصبح هكذا مجرد فم يأكل وجسد يتمظهر وغريزةعمياء مشدودة إلى أسفل.
إننا نحتاج إلى ارادة طيبة تنقل تصورنا العقلي للغايات التي نريدها ونراها نبيلة من طور الممكن إلى طور التحقق وإلاّ بقيت حريتنا حرية نظرية لا تُغني ولا تُسمِن.
إذن ثمة واجب علينا تجاه حريتنا، فما هو فطري فينا من حرية يجب أن ينمو بالمعرفة والإرادة, ولا يمكن أن نجد طريقاً مثل الفضيلة نمشي فيه, لنربي حريتنا, فنبلغ ملء إنسانيتنا.
حرية المسيحي
حتى الآن نتكلم كما لو كنا مجرد فاعلين أخلاقيين بغض النظر عن هويتنا المسيحية. ولكن كيف يمكننا أن ننظر إلى موضوع الحرية من حيث كوننا مسيحيين؟ سبق لنا أن قلنا أن الحرية, في شكلها الفطري هي هبة الله الأجمل, فالله الذي هو حر حرية مطلقة خلقنا على صورته ومثاله وأعطانا روحه فصرنا أحراراً بنوع حريته لا بدرجتها، ولكن إذا ماأردنا أن نفهم معنى حريتنا كمسيحيين وكيف يجب أن نمارسها, ينبغي لنا أن نتوجه إلى ذاك الذي عاش الحرية بملئها، إلى يسوع الفادي الذي ملك العالم بالمحبة فحرره من عبودية الخطيئة.
فلأنه أحبنا تجسّد من أجلنا, وولد وعاش فقيراً متواضعاً فكان هكذا حراً في روحه.
ولأنه أحبنا دخل بيوت الفقراء والمظلومين وجالس الخطأة وآكلهم. ففرح بهم وفرحوا به. فكان حراً هكذا في روحه رغم ألف قيد وقيد يحيط به.
ولأنه يُحبنا, اختار أن يمشي في درب الجلجلة وأن يُهان, ويُسمّر على الصليب من أجل أن يرفع الإهانة عنا ويُحررنا من عبودية الخطيئة , ويستحق لنا الخلاص, فكان هكذا حراً في روحه.
ولأنه أحبنا صفح عنا وزرع الرجاء فينا فكان هكذا حراً في روحه.
ولأنه أحبنا التزم بنا وجعلنا قضيته الكبرى فاختارنا إخوة له وأبناء لأبيه السماوي وأخذنا على عاتقه كما نحن, وتبنّانا فصرنا أبناءنا به وأحراراً بمحبته.
وإذا كانت الفضيلة هي طريق الحرية فلأن المحبة أولى الفضائل وأعظمها. فعندما نحب نفرَح ونُفرِح, نتحرر ونُحرِر, ويوم نكره نستعبد روحنا للخطيئة، ونستعبد الآخرين لها. فنحن أسرى الأخطاء التي لم نصفح عنها كما يقول (جان فانييه). فبالمحبة نموت عن أنانيتنا, منبع الشر فينا، وبها نخرج من ذاتنا لنلتقي الآخر ونفتح قلوبنا لخدمته ومساعدته، وقد تمتد هذه الخدمةإلى أقصى درجات التضحية, إلى التضحية بذواتنا على مثال المسيح الذي قال: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم" وهنا يجب ألاّ يغيب عن أذهاننا, أنّ واحداً من أهداف رسالتنا، نحن أسرة التعليم المسيحي, هو أن نعمل على تحرير أطفالنا من كل أشكال القيود والعقبات والعقد التي تحول دون ممارستهم إيمانهم بصورة شخصية وحيّة، وأن نساعدهم على اطلاق طاقاتهم وتحريرها ليستطيعوا فيما بعد أن يلتزموا فيبنوا بفرح المحبة, الأسرة والكنيسة والوطن. علينا أن نهيئ قلوبهم للحب, شريعة الحرية العظمى فنكون بذلك قد أيقظنا فينا وفيهم الإحساس بإله المحبة. فإلى هذه الحرية أدعو نفسي وإيّاكم.
المراجع
هل أنا حر؟ الأب روفائيل خزام، سلسلة الإيمان والحياة، مطبعة دار العالم العربي مصر
مشكلة الحرية، د. زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، القاهرة.
الحرية جون ستيوارت ميل، ترجمة عبد الكريم أحمد، مجموعة الألف كتاب، مؤسسة سجل العرب، القاهرة