تَوَكَّلْ على الرَّبَ بِكُلِّ قَلبِكَ و لا تَعتَمِدْ على فِطنَتِكَ (ام 3 /5)
بستان الرهبان: تدبير الفكر: 4 /4: الافراز
الافراز
+ قال أحد
الشيوخ :
أن الافراز الحقيقي لا يكون من
الاتضاع ، والاتضاع هو أن نكشف لآبائنا أفكارنا وأعمالنا ، ولا نثق برأينا
، بل نستشير الشيوخ المجربين الذين نالوا نعمة الأفراز ، ونعمل بكل ما
يشيرون به علينا ، فالذي يكشف أفكاره الردية لآبائه فانها تخف عنه ، وكما
أن الحية اذا خرجت من موضع مظلم الي ضوء تهرب بسرعة ، كذلك الأفكار الردية
اذا كشفت تبطل من أجل فضيلة الاتضاع . واذا كانت الصناعات التي نبصرها
بعيوننا أولا من معلميها ، أفليست اذن جهالة وحماقة ممن يريد أن يمارس
الصناعة الروحانية الغير المرئية بغير معلم ، علما بأنها أكثر خفاء من جميع
الصنائع ، والغلط فيها أعظم خسارة منكل ما عداها ؟ ! .
+ قال مار افرام :
بغير طين لا يبني البرج ، وبغير
معرفة لا تقوم فضيلة .
+ عبر راهب براهب فقال له :
ما هو تمام الحكمة ؟ فأجابه :
ليس الحكيم التام هو ذاك الذي يفرح بشيء من لذات هذه الدنيا ، أو يحزن بشيء
من مصائبها أو يغتم به ، وأنما الحكيم التام هو ذلك الذي لا تفرحه السراء ،
ولا تحزنه الضراء بل يكون عارفا بالمبتدأ وما يؤول اليه الانتهاء .
+ اجتمع
جماعة من الآباء عند الأنبا أنطونيوس :
وتباحثوا في أي الفضائل أكمل
وأقدر علي حفظ الراهب من جميع مصائد العدو . فمنهم من قال أن الصيام والسهر
في الصلاة يقومان الفكر ويلطفان العقل . ويسهلان للانسان سبيل التنقرب الي
الله . ومنهم من قال أنه بالمسكنة والزهد في الأمور الارضية يمكن للعقل أن
يكون هادئاً صافياً خالصاً من هموم العالم فيتيسر له التقرب من الله ..
وآخرون قالوا أن فضيلة الرحمة أشرف جميع الفضائل . لأن الرب يقول لأصحابها
كما وعد : تعالوا الي يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل كون
العالم .. فمن بعد انتهائهم من المباحثة والكلام .
+ قال أنبا
أنطونيوس :
" حقا أن كل هذه الفضائل التي
ذكرتموها نافعة ويحتاج اليها كل الذين يطلبون الله . ويريدون التقرب اليه
الا اننا قد رأينا كثيرين يهلكون أجسادهم بكثيرة الصوم والسهر والانفراد في
البراري والزهد حتي أنهم كانوا يكتفون بحاجة يوم واحد ويتصدقون بكل ما
يمتلكون . ومع كل ذلك رأيناهم وقد حادوا عن المسلك القويم وسقطوا وعدموا
الفضائل وصارو مرذوين . وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الأفراز"
( أ ) فاعلية الافراز
الأفراز هو الذي يعلم الانسان
كيف يسير في الطريق المستقيم الملوكي وكيف يحيد عن الطريق الوعرة . أن
الافراز يعلم الانسان كيف لا يسرق من الضربة اليمينية بالامساك الجائز
المقدار وكيف لا يسرق أيضاً من الضربة الشمالية بالتهاون والاسترخاء .
الافقراز هو عين النفس وسراجها
كما أن العين سراج الجسد . وبخصوص الافراز حذر الرب قائلا : أحذر لئلا يكون
النور الذي فيك ظلاما . فبالافراز يفحص الانسان سيئاته وأقواله وأعماله
وبالافراز أيضاً يفهم الانسان الأمور ويميز جيدها من رديئها وتتأكد ذلك من
الكتب المقدسة : فشاول الملك لما لم يمتلك الافراز اطلم عقله فلم يفطن به
كان يظن الي اهمية ما قاله الله بلسان صموئيل النبي . فأغضب الله بذلك
التصرف الذي بهخ كان يظن أنه يرضي الله ونسي أن الطاعة للهخ أفضل من تقريب
الذبائح . والرب يسمي الافراز ربانا ومدبرا لسفينة حياتنا . والكتاب يقول :
ان الذين ليس لهم مدبر يسقطون مثل الورق من الشجر . وأيضاً يقول الكتاب :
أن الانسان الذي يعمل أموره بغير مشورة ولا أفراز يشبه بمدينة غير محصنة
وكل من اراد دخولها وأخذ كنوزها لا يجد مانعا له من ذلك .
+ حدث أن أحد الاخوة :
لحقته تجربة من ديره فطردوه من
هناك فمضي الي جبل أنطونيوس وسكن عنده مدة . وبعد ذلك أرسله الي ديره فلم
يقبلوه وطردوه مرة أخري . فرجع إلأي الأنبا أنطونيوس وقال له : أنهم لم
يرضوا ان يقبلوني يا أبي فأرسل اليهم يقول :
مركب غرق في اللجة وتلفت حمولته
. وبتعب كثير سلم المركب وجاء الي البر فالذي نجا أتريدون أنتم أن تغرقوه
ثانية ! ؟ أما هم فحالما رأوا كتاب الأب قبلوه بفرح .
( ب ) تميز الآلام الجسدانية
+ قال أنبا أنطونيوس :
ان للجسد ثلاث حركات :
الحركة الاولي من الطبع تتحرك فيه ولكنها ليست عاملة ما لم توافقها
النية والحركة الثانية تتولد من الراحة وتر فيه البدن وتنعيمه
بالطعام والشراب . فيسخن الجسد ويهيج الدم ويحرك الي الفعل .. ولذلك قال
الكتاب انظروا لئلا تثقل قلوبكم بالشبع والسكر . كما يقول : لا تسكروا
بالخمر الذي منه الخلاعة أما الحركة الثالثة فأنها تهيج علي
المجاهدين من حسد الشيطان
+ سئل
القديس مقاريوس :
ماذا يعمل الانسان المخدوع
بأسباب واجبة وباعلانات شيطانية تشبه الحقيقة ؟ .
الجواب :
يحتاج الأنسان في هذا الأمر إلي
افراز كثيرة ليميز بين الخير والشر ، ولا يسلم نفسه بسرعة ، فأن أعمال
النعمة ظاهرة ، التي وأن تشكلت بها الخطية فلا تقدر علي ذلك ، لأن الشيطان
يعرف كيف يتشكل بشكل ملاك نور ليخدع ، ولكن حتي ولو تشكل بأشكال بهية ،
فانه لا يمكنه ان يفعل أفعالا جيدة ، ولا أن يأتي بعمل صالح اللهم الا أن
يأتي بعمل صالح . اللهم ألا ان يسبب بذلك الكبرياء ، أما فعل النعمة فانما
هو فرح وسلام ووداعة ، وغرام بالخيرات السمائية ، ونياح روحاني لوجه الله ،
أما فعل المضاد فبخلاف ذلك كله ، فهو لا يسكن الملاذ ، ولا يهديء الآلام .
فأذن من فعل الأفراز أن تعرف
النور اللامع في نفسك ، هل هو من الله أو من الشيطان ، والنفس بها أفراز من
احساس العقل ، به تعرف الفرق بين الصدق والكذب ، كما يميز الحنك الخمر من
الخل ، وأن كانا متشابهين في اللون ، كذلك النفس من الأحساس العقلي تميز
المنح الروحانية من التخيلات الشيطانية " .
+ قيل عن
أحد الرهبان :
انه كان بليغا جداً في الأفراز
والتمييز وأراد السكني في القلالي فلم يجد قلاية منفردة ، وأنه خرج تائها
في البرية الي ان لقيه أحد الشيوخ فقأخبره بحاله فأجابه الشيخ : " أن لي
قلايتين . فاجلس في واحدة منهما الي أن يسهل المسيح لك بقلاية "
فحمد أفضاله . ولما سكن في القلاية قصده قوم من الرهبان لينتفعوا منه لكونه
من أهل الفضل ، وكانوا يحملونه اليه ما سهل عليهم حمله .
فلما نظر الشيخ صاحب القلاية
ذلك بدأ يحسده بايعاز من الشيطان وقال لتلميذه : " كم من السنين ، ونحن
مقيمون في هذا المكان ، ولم يقصدنا واحد من هؤلاء الرهبان . وهذا المحتال
في أيام قلائل استحال اليه الكل ، أمض اطرده من القلاية " فمضي التلميذ
وقال له : " أ، المعلم يسلم عليك ويسأل عن صحتك ونجاح أحوالك واعتدال مزاجك
ويسألك أن تصلي من أجله لأنه مريض ، ويقول لك : أن كان لك احتياج الي شيء
أقوم بتأديته لك " فقام الراهب وسجد للتلمذ وقال له بلغه سلامي عني .
وقل له :
" اني بخير ببركة صلواتك وليس
لي احتياج لشيء " .
فرجع التلميذ الي الشيخ وقال له
: أن الراهب يقبل يديك ويسألك أن تصلي من أجله وتمهله أياما قلائل حتي يجد
لنفسه قلاية ، ويرتحل عن قلايتك بسلام . فصبر ثلاثة ايام وبعد ذلك أقلقه
الحسد ، فقال لتلمذه : اذهب وقل به " لقد صبرت أكثر من اللازم . فأخرج من
القلاية " فأخذ التلميذ بركة مما كان يوجد في القلاية ، ثم جاء الي الراهب
وسجد بين يديه وقال له : " أ، المعلم يسلم عليك ويسألك أن تقبل منه هذه
البركة لأجل السيد المسيح وتصلي من أجله لأنه متعب جداً . ولولا توجعه لكان
اليك " فلما سمع الراهب ذلك أدمعت عيناه وقال : " كنت أشتهي أن أذهب وأبصره
" فقال له التلميذ : " لا يا أبتاه ، فأنه لا يحتمل أبا مثلك يرافقني اليه
، لئلا يلحقني من ذلك شر . أبق أنت ههنا وأنا أبلغه سلامك ورسالتك "
ثم ودعه وخرج وأتي الي الشيخ
وقال له : يا أبتاه أن الراهب يقول لك : " لا يصعب عليك الأمر ، ولا تغضب ،
في الأحد سوف أخرج من قلايتك " فما زال الشيخ يترقب سواعي الليل حتي يوم
الأحد فلما لم يخرج الراتهب قام الشيخ واخذ عصا وهو مسبي العقل ، طائر
الفكر ، وقال لتلميذه : " تعال معي الي هذا الراهب المحتال ، فأنه اذا لم
يخرج باختياره فسوف أطرده بهذه العصا مثل الكلب " . فلما رآه التلميذ هائجا
،وقد سلب العدو فكره ، قال له : " أسألك يا أبتاه أن تستمع الي مشورتي بأن
تجلس ههنا ، وأنا أسبقك اليه وأبصر ان كان عنده رهبان ، لئلا اذا أبصروك
علي هذه الحال يطردونك عنه فلا تنال بغيتك ، أما اذا وجدته وحده اعلمتك
لتمضي اليه وتطرده " ، فاستصوب الشيخ كلام التلمذ وجلس وهو يصر بأسنانه
ومضي التلميذ الي الراهب، وسجد له كعادته وزقتال : " ان المعلم يسلم عليك ،
ولما أعلمته أن جسمك ضعيف احترق قلبه ولم يستطيع صبرا ، وقد جاء ليبصرك ،
ولكنه بسبب ضعفه ما أمكنه المجيء اليك " . فلما سمع الراهب ذلك الكلام خرج
لوقته للقائه بلا كساء ولا قلنسوة علي رأسه ولا عصا بيسده . فسبقه التلميذ
الي معلمه وقال له : " هوذا الراهب قد ترك قلايتك وها هو حاضر ليودع ويأخذ
بركة صلاتك قبل ذهابه وانصرافه بسلام " . فلما سمع الشيخ هذا الكلام تذكر
كلامه ومراسلاته له ، وانكشفت عنه غمامة الحسد وبقي حائرا في نفسه ماذا
يعمل ، وخجل من لقائه ، ولشدة الحياء لم يقدر ان يرفع عينيه نحوه ، فأخذ
يولي الأدبار ، فلما رآه التلميذ علي هذه الحال ، سجد له وقال : " يا أبتاه
. التق بأخبك دون خجل فأن جميع الكلام الذي قلته لي لم يصل الي مسامعه قط "
، فلما سمع الشيخ هذا الكلام فرح جدا والتقي بالراهب بفرح وقلب نقي ،ورجع
معه الي قلايته . فقال له الراهب : " أغفر لي يا أبتاه لأنه كام الواجب علي
أنا أن آتي اليك ، لأنك تعبت في المجيء الي : فلما رجع الشيخ الي قلايته
سجد بين يدي تلميذه وقال له : " أنك من الآن أنت الأب وأنا لا أستحق أن
اكون تلميذا " لأنك بعقلك وسلامة ضميرك وحسن افرازك ، خلصت نفسي من الفضيحة
.
( ج ) كيف يأتينا الافراز
+ قال
الأنبا موسي الأسود :
كل الأمور الروحية بختبرها
الانسان بالافراز ويميزها ولن يأتينا الافراز ما لم تتقن أسباب مجيئه وهي :
السكوت لأنه كنز الراهب ،
والسكوت يولد النسك . والنسك يولد البكاء ، والبكاء يولد الخوف ، والخوف
يولد الاتضاع ، والاتضاع مصدر التأمل فيما سيكون . وبعد النظر يولد المحبة
. والمحبة تولد للنفس الصحة الخالية من الاسقام والامراض ، وحينئذ يعلم
الانسان أنه ليس بعيدا من الله فيعد ذاته للموت .
( د ) نتيجةعدم الافراز في
النسك
+ قال
القديس أنبا أنطونيوس :
ان قوما عذبوا أجسادهم في النسك
ولم يجدوا الافراز . فصاروا بعيدين عن الله .
+ قال أنبا
أوغريس :
" ممدوح هو الانسان الذي يربط
النسك بالفهم ، لكي تروي النفس من هذين النوعين ، وتظهر النسك بقتل الأعضاء
التي علي الأرض ، اعني الزني والنجاسة والأغراض الشريرة " .
+ قال
القديس قسيانوس الرومي :
" انه كان شيخ اسمه ايرينيس ،
هذا ? منذ أيام قلائل
? كابد سقطه يرثي لها قدام
أعيننا اذ تهزأت به الشياطين ، فهبط من تلك الرفعة الي قاع الجحيم بسبب شظف
الطريق الذي سلكه ، اذ سكن البراري منذ 50 سنة مستعملا التقشف والنسك ،
طالبا أبداً أطراف البرية والتفرد أكثر من أحد ، فهذا
? بعد الأتعاب الكثيرة تلاعب به
أبليس وطرحه في ثقيلة ، وسبب به للآباء القدماء الذين في البرية ولكل
الاخوة مناحة عظيمة ، ولو أنه استعمل الافراز لما لحقه ، وذلك أنه تبع فكره
في الأصوام والانفراد بعيدا عن الناس لدرجة أنه حتي ولا في يوم الفصح
المجيد كان يحضر مع باقي الآباء الي الكنيسة كي لا يضطره الحال الي أن يأكل
مع الآباء شيئا مما يوضع علي المائدة ، مثل القطانيا او غيره ، لئلا يسقط
عن الحد الذي حدده لنفسه من النسك ، فهذا ظهر له الشيطان بشبه ملاك نور
فسجد له واقنعه أن يرمي نفسه في بئر عميقة ليتحقق عمليا عناية الله ، وأنه
لن يلحقه ضرر لعظيم فضيلته ، ولما لم يميز بفكره من هو هذا المشير عليه
بهذه المشورة لظلام عقله ، فطرح نفسه في بئر في منتصف الليل ، وبعد زمان ،
عرف الاخوة امره ، وبالكد والتعب الكثير انتشلوه وهو بين الحياة والموت ،
ولم يعش بعد ذلك سوي يومين ومات اليوم الثالث ، وخلف للاخوة حزنا ليس بقليل
. وأما الأب بفنوتيوس ، فلما حركته محبته للبشر ، أمر بأن يقدم عنه قربان
مثل المتنيحيين ، ذاكرا اتعابه الكثيرة وصبره علي شقاء البرية " .
+ وحدث
لألبينوس الطوباوي :
الي الاسقيط وكان بيننا وبين الاسقيط 40 مرحلة ، أكلنا فيها دفعتين وشربنا
ماء ثلاثة أيام وهو لم يذق فيها شيئا ، بل كان يتلو محفوظاته وما كنا نلحقه
ماشيا ، وهكذا ضبطه العدو أخيراً لما اقتنع برأية وفي عروض ذلك أمسكته حمي
محرقة في أمكنة الجلوس في القلاية ، فمضي الي الاسكندرية ولعل كان بسياسة
الهية كما قيل : " دفع مسماراً بمسمار " لأنه أسلم ذاته باختيار لعدم
الافراز فوجد فيما بعد خلاصا غير طوعي ، فصار يحضر المشاهد ( المسارح )
وطرد الخيل ، ومن كثرة أكله وغرامه بشرب النبي مال جدا لمحبة النساء ، ولما
شارف الوقوع في تلك البئر ، حدث له
? ولعله بسياسة الهيئة
?
أن مرض في أعضائه مدة ستة أشهر حتي أن تلك الاعضاء تهرأت وسقطت منها وبها ،
وفيما بعد بريء ، فانتبه وذكر السيرة السمائية واعتراف بجميع ما عرض له
للآباء القديسين ، ولم يفسخ له الأجل فتنيح بعد أيام قلائل .